«هل كان يجوزُ التغاضي عن مسألة واجبٍ وطني فُرضَ علينا لاستعادة رئيس حكومتنا إلى بلده لأداء ما يوجبه عليه الدستور والعرف، استقالة أو عدمها، وعلى أرض لبنان؟» (الرئيس ميشال عون 21-11-2017)
سعد الحريري في مطار رفيق الحريري
إنتهت «مرحلةُ التأمُّل». كان الوقتُ قبل مُنتصف الليل بقليل. لكنَّ الأضواء كانت مُسلطة على وجه الرجُل العائد من إقامة غير طوعية دامت ثمانية عشر يوماً. لم تكن الحظة عادية أبداً لرجُل إعتاد حياة الأسفار و«الأعمال» وسلالم الطائرات. سريعاً ينزل الرجل من على متن طائرته الخاصّة. لم ينظر حوله طويلاً. لا وقت لتَرَف الكلام أو توزيع الإبتسامات ولا حتى لـ «صالون الشّرف». بدا التجهُّم واضحاً في ملامح وجهه. اللحظةُ نادرةٌ فعلاً. يصافح الرجل ثلّةً من رجال الأمن والعسكر في أرض المطار ويغادر سريعاً إلى «الضريح». كأنّما يقول للجميع بعد كلّ غياب طوعي أو قسريّ، أنه يجدّد شرعيته من هناك أولاً. «أنا سعد رفيق الحريري». تأخذُ رهبة اللحظة المراسلة التلفزيونية لتعلن عن طريق الخطأ «وصول الرئيس الشهيد سعد الحريري». لكنَّ الحريري «شاهدٌ» فعلاً. قال في اليوم التالي كلاماً كثيراً في السياسة لكنّه لم، ولن يفصح على الأرجح، عن حقيقة ما جرى معه في أيام الرياض العصيبة. في «كادر» الصورة، بدا الحريري وحيداً وجهاً لوجه مع ضريح أبيه. تحاول صحافيّة لاحقاً أن تستصرحه ولَو بكلمة واحدة للبنانيين فيكتفي بالقول: «شكراً» ويمضي. فضيلةُ التغطية الإعلامية الوحيدة في مواكبة مسار عودة الحريري هي أنها أسقطت، منذ اللحظة الأولى، هشاشة ذريعة «التهديد الأمني» الذي ورد في بيان استقالة الحريري الشهير. عاد سعد الحريري عبر مطار يحمل اسم أبيه الراحل. قبل ثلاثة عشر عاماً، وقف رفيق الحريري على أرض المطار ذاته جنباً إلى جنب مع أركان الدولة اللبنانية في ذلك الحين لاستقبال الأسرى المحرّرين من سجون الإحتلال الإسرائيلي. لا وجهَ للشبه بين الصُورتين سوى إسم رفيق الحريري.

الحريري لِـ «من لديه آذان»: أنا الزعيم؟
الذكرى الرابعة والسَّبعون لإستقلال لبنان. يُعلن الحريري عن بدء «مرحلة التريُّث» أو العودة غير الرسمية عن استقالة لم تكتمل أصلاً. يومٌ تلفزيونيٌ طويل كان سعد الحريري بطَلَه الأوحد. تلاحقُ الكاميرا حركة الحريري أولاً. لا تكتمل صورة العودة إلا بلقاء «أهل الوفاء الحقيقيين» على حدّ قول الرّجُل. لا حاجة هناك لبزَّة رسميّة أو ربطة عُنق. مِن على شرفة «بيت الوسط» أو «قصر إياس»، يُطلّ «الزعيم العائد» على جمهوره. يظهر مرَّة أخرى في «الإطار»، لكنه لم يكن وحيداً. بالقرب منه عمّته بهيّة التي «أخذته بالأحضان» عندما دمعت عيناه تأثّراً وابن عمّته نادر وجمال عيتاني وآخرون بينهم باسم السّبع العائد إلى «الأضواء». في صورة «بيت الوسط»، كان وجه الحريري أقرب إلى ملامح «الزعيم» الذي يستقوي بجمهوره في لحظة مؤثّرة. يحيّيهم ويصافحهم ويشاركهم تلاوة «النشيد الوطني». لا بطولة ولا انكسار بل «لحظة صدق» كان الطرفان، الحريري وجمهوره، بحاجة كبيرة إليها. كلاهما كان يشعر بـ «العطش» للطرف الآخر. ثمّة فارق كبير بين معنى أن يشرب الحريري الماء كثيراً في إطلالته التلفزيونية مع بولا يعقوبيان وبين أن يسأل جمهوره مثلاً: «بتسمحولي اشرب ماي»؟ بالأمس كان الرجل يقول صراحة أمام ناسه: «هيدي اللحظة ما ممكن إنساها». يريدُ أن يؤرِّخ بلسانه لِلَحظة استثنائية في حياته السياسية: لحظةُ وفاء وصدق «للتاريخ والجغرافيا». يقول لهم: «جيتوا من كل لبنان لتقولولي الحمدالله عالسلامة». حتى وإن بدا ذلك إقراراً بأنّ الرجل لم يكن خارج البلاد في ظروف طبيعية، لكنّ أحداً لن يسأل زعيمه الآن لماذا حصل ما حصل؟ على الأرجح فإنّ الجمهور سيتريَّث أيضاً. مشهدُ «بيت الوسط» مجرّد «تنفيسة» أم ولادة جديدة لسعد الحريري؟