حين انطلق موقع «المدن» القطري عام 2012، جاء يومها في لحظة تحوّل مفصلية في تاريخ المنطقة، تسودها فوضى «الربيع العربي» الذي كانت قطر عرّابته وراعيته من مصر إلى سوريا، فانعكست أجندة الدوحة وأهدافها على المحتوى التحريري ومقالات الكتّاب والصحافيين العاملين فيه. بعد مرور 12 عاماً مليئة بالدماء والحروب الأهلية، ها هي المنطقة أمام لحظة تحوّل جديدة على خلفية «طوفان الأقصى» وغيرها من الأحداث والتحولات السياسية. أمر دفع قطر إلى إعادة خلط أوراقها وأجندتها، وتغيير لهجتها ومحاولة تصفير المشكلات مع الأطراف الإقليمية من «حزب الله» في لبنان، وإيران وصولاً إلى النظامين المصري والسوري، في وقت تواصل فيه صراعها المستتر مع السعودية. إعادة التموضع القطرية هذه أدّت إلى نشوء مشكلات مع رئيس التحرير ساطع نور الدين الغائب عن الكتابة منذ أكثر من خمسة أشهر.
«السيرك الصحافي» (أوليفييه بلو ـ فرنسا)

رغم أنّ الصحافي يعزو تغيّبه إلى «شعوره باليأس والخيبة من الوضع الراهن»، إلا أنّ المطّلع على الملف يعرف أنّ قراره الذي يشبه الاعتكاف غير الرسمي، يعود إلى خلاف مستفحل مع القائمين على المؤسسة القطرية لأسباب عدة من بينها مالية وسياسية وأخرى تتعلّق بهوية «المدن» التحريرية وإحساس القطريين بأنّ الموقع لم يفرض نفسه في المشهد الإعلامي، ولم يحقق التطلّعات الموضوعة له. وتلفت معلومات لنا إلى أنّ نور الدين يغيب عن الكتابة منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة، ولم يسجّل أي موقف سياسي كما جرت عليه العادة. وتزامن غيابه مع طلبه من مديري التحرير إبلاغ الموظفين في بيروت قبل أربعة أشهر تقريباً بعدم الحضور إلى مكاتبهم في منطقة السوديكو، والاكتفاء بالعمل عن بُعد، بينما يواصل رئيس التحرير تفاصيل العمل على الهاتف. علماً أنّه لم يجتمع بموظفيه لشرح الأسباب التي دفعته إلى اتخاذ هذا القرار.
غياب نور الدين عن الكتابة أثار الشكوك في ظل التحوّلات السياسية الكبرى التي تشهدها المنطقة، حيث تشكّل قطر طرفاً وازناً فيها، في حين أنّه لم يترك في الماضي حدثاً سياسياً من دون إعلان موقفه، وخصوصاً دعمه لـ «الثورة» السوريّة ولهجته العالية ضدّ النظام. وتوضح مصادر بأنّ الشرارة المباشرة لاندلاع الخلاف بين القطريين ونور الدين، تعود إلى رفض الدوحة تقرّب أحد الصحافيين اللبنانيين العاملين في «المدن» من السفير السعودي في لبنان وليد البخاري. هذا الأمر أشعل الخلاف بين نور الدين والفلسطيني عزمي بشارة الذي يدير «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، و«فضاءات ميديا» التي تأسّست عام 2012 (تضمّ كلاً من صحيفة «العربي الجديد» و «المدن» وغيرهما)، ووضع الموقع الإلكتروني عند مفترق سيحدّد مستقبله قريباً. وتلفت معلومات لنا إلى أنّ مؤسسة «فضاءات» تدرس إمكانية إعادة هيكلة «المدن» بسبب عدم رضى القائمين عليه على هويته وسياسته التحريرية التي لم تعد تخدم القطريين.
إعادة هيكلة للموقع الذي لم يعد يخدم السياسة القطرية

وتشير المصادر إلى أنّ النقاش بين القطريين والصحافي اللبناني، بدأ قبل أقل من عام واشتدّ خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، وتركّز على بعض المواد الصحافية المنشورة في «المدن» التي تتعارض مع سياسة القطريين لجهة الوقوف على مسافة واحدة من الجميع. وتشير المصادر إلى أن القطريين طلبوا مراراً من نور الدين التخفيف من لهجة بعض الكتّاب الأساسيين الذين باتت علاقاتهم الشخصية بالسياسيين في لبنان واضحة في مقالاتهم. وكانت الأطراف القطرية وجّهت انتقادها إلى الموقع عشية الانتخابات النيابية اللبنانية قبل عامين، حين وجدت أنّ الموقع تحوّل إلى مُدافع عن «حزب القوات» بما يقرّبه من الخطّ السياسي السعودي الذي يمدّ «القوات» بالدعم والتمويل. وتشير المعلومات إلى أن نور الدين رفض الالتزام بتعليمات القطريين، ملوّحاً بإمكانية استمراره من دون دعمهم، على اعتبار أنه يملك مجموعة أسهم في الموقع الذي يضمّ قرابة 30 موظفاً موزعين بين لبنان وخارجه. وتلفت المعلومات إلى أنّه حتى اليوم، لم تتخذ «فضاءات» قراراً واضحاً في قضية نور الدين، وسط أخبار عن كباش بين الطرفين. وعرضت المؤسسة القطرية مجموعة حلول على الصحافي اللبناني، لكنّه رفضها كلّها. من جهته، يوضح ساطع نور الدين في اتصال معنا بأنّه يغيب عن الكتابة لأسباب صحية وعائلية، نافياً علمه بخلافه مع القطريين، ومؤكداً على أن العمل في «المدن» يسير على طبيعته. الأكيد أنّ الموقع يقف اليوم أمام مفترق في ظلّ إعادة تموضع قطرية، ما قد يغيّر بوصلته وهدفه أو يدفعه خارج المدار القطري.