غزة | لا يختلف اثنان على فكرة مقاومة المحتل في فلسطين. وإذا نظرت إلى الواقع وصراعاته الطبقيّة فستجد أنّ المستفيدين من الاحتلال لا يشكلون إلا قلّة قليلة، وأنّ بقيّة الطبقات مع مقاومة المحتل الصهيوني، حتى وإن اختلفت الأداة، فستجد أنّ الجميع متفق على دحر المحتل. وإذا خصصنا الأمر بقطاع غزة، فستجد أنه بأدواته المقاومة التي اجترحها على مدار السنوات الماضية قد حمل الجزء الأكبر لصورة المقاوم الفلسطيني الذي لا يتخلّى عن حقّه في شيء، وعلى الرغم من أنّ هذه الصورة محمودة للفلسطيني بشكل عام، إلا أنها تصيب الغزّيين في مقتل في غالب الأحيان.
«جبل المحامل» على حساب أرواحنا
خلال هذه الحرب، كانت الأصوات مختلفة في الساحة الفلسطينيّة، بين من يريد قتل كل صهيوني على هذه الأرض، لينتقم عن مأساة الشعب الفلسطيني المستمرة منذ أكثر من 75 عاماً، ومن يريد وقف قتل الإنسان الفلسطيني والحفاظ عليه، حفاظاً على فكرة الوجود الفلسطيني على الأرض. وهذا الأمر أدّى إلى أصوات تستغل الرأي المنادي بالحفاظ على الإنسان للنيل من المقاومة، باعتبار أنها سبب البلاء والشرور، وأن التعايش مع المحتل أصبح ضرورة ملحّة، الأمر الذي قوبل من الجميع الفلسطيني بالرفض والنبذ.


هذا الوضع جعل الفلسطيني في غزة مثقلاً، فصورة المقاوم التي وُصم بها على مدار السنوات الماضية، وجعل الأماني الإنسانية للغزيين محط نبذ، كي لا تهتز صورة المقاوم الصلب الذي لا يُهزم ولا يُقهر، جعل للغزي صورة واحدة، وهي صورة المقاتل الذي يدوس على قلبه ليحرر الأرض والإنسان، فلا يعلو صوته الإنساني الذي يتألم ويبكي ويضحك ويشعر بكل المشاعر الإنسانيّة الفطرية للجمع الإنساني في أنحاء المعمورة. أصبحت فكرة الصمود المثقل بها هذا الغزّي ضرباً من ضروب المازوخية في كثير من الأحيان بالنسبة إلى الجمع الفلسطيني، الذي يريد أن يحافظ على الصورة نفسها حتى لا يهتز في وجدانه وينتفض ويخسر كما في كل معارك هذه الحياة.
الصورة أصبحت من الحقيقة، وكأن من سقطوا حتى الآن هم تحصيل حاصل، وضريبة التحرير التي يتحمّلها الغزّي «وحده» ليتم تمجيد صورة «جبل المحامل يا غزّة» على حساب دماء أبنائها وأرواحهم هنا وهناك.

الغزّي يُعاقب بسبب إنسانيته
مع زيادة القتل وزيادة الضغط على الشعب الفلسطيني في غزّة، خرجت أصوات الناس التي تطالب بوقف العدوان بأي شكل من الأشكال، حتى لو تنازلت المقاومة عن مكتسباتها التي حقّقتها في السابع من أكتوبر. هذه الأصوات المشروعة تقابل بمصادرة حقها في أن تتكلم حتى. هذه المصادرة لا تأتي ضمن سياق طبيعي للحفاظ على الإنسان الفلسطيني في غزّة ومقاومته المستمرّة، إنما تأتي كمصادرة وقحة لأي صورة إنسانيّة من الممكن أن تُشعِر المصادرين بأنّهم مقصّرون في حق غزّة بشكل خاص، وحق البلاد بشكل عام. فيتحول الحال شيئاً فشيئاً إلى عقاب للغزّي الذي يصرخ ألماً، ويعبّر عن نفسه ووجعه، أي صورة مغايرة لتلك التي وُصم بها على مدار السنوات الماضية.
لا يتوقّف الأمر هنا فقط، بل تزداد الاتهامات بأنّ هذه الأصوات عبارة عن أصوات مساعدة للاحتلال، تهدف إلى كسر الروح المعنوية للمقاتلين والناس في غزّة. وما هي إلا أصوات انهزاميّة لأنها طالبت فقط بوقف مسلسل الدم المستمر على فلسطين بشكل عام وغزّة بشكل خاص.
هذا العقاب الذي يمارسه الجميع على الغزّي الذي يحطم تلك الصورة المرسومة في أذهان الجميع، لا يتعدّى كونه حيلة نفسّية، حتى لا تتعرى الأنفس أمام الأنفس، وأمام العالم بأسره. هذا العالم الذي فضحت غزة مدى تخاذله، حين ترك قطاع غزّة وحده، معلّقاً على المشنقة من دون أن يسانده أحد.
في النهاية، أتمنى لو نسي العالم صورة «جبل المحامل» التي أثقلوا بها الغزّيين، وأن يتوقّف الجميع عن معاقبة الغزيين على مشاعرهم الإنسانية. الغزّي لا يختلف عن أي شخص في هذا العالم. له أحلام وطموحات، يشعر بالخوف ويتمنى حياة كريمة، وهذا الأمر ليس منقصة أو مثلبة، وليس انتقاصاً من فكرة المقاومة بحد ذاتها. فالغزّي لا يزال يقاوم ويقارع الاحتلال حتى وإن ضعف. وهذا لا يعني بالضرورة أنّ المقاومة ستنتهي.
ولعل أبلغ الكلام هو ما قاله مريد البرغوثي عندما قال: «سنصعد هذا الجبل، متعبين تماماً، وحولي وحولك يأسان، يأسي ويأسك، رعبي ورعبك، يا صاحبي، نحن لسنا جبانين، أو بطلين، ولكننا ولدان بسيطان، مثل مكاتيب فلاحة غربوها».