لم تكن المرة الأولى التي تقدّم فيها فرقة «جفرا» عرضاً أمام جمهور عريض، لكنها ربما المرة الأولى التي تقدّم فيها عرضاً، يمكن القول إنه عرض لفرقة كبيرة. كان هذا العرض في بيروت، في 12 كانون الثاني، ضمن «الأسبوع التضامني مع غزة» الذي نظّمته أسرة مسرح «المدينة» ومتحف «نابو» بعنوان «إلى غزة سلام».وصلت متأخراً إلى المسرح، بضع دقائق عن موعد الحفل، الذي كان محدّداً في الثامنة مساء، فوجئت بطلب المنظّمين، بالتحرك نحو باب آخر للمسرح، بسبب امتلاء المقاعد. للوهلة الأولى استغربت، فالفرقة ليست معروفة كثيراً. لكن بعد أن قدّمت أكثر من أغنية، وخرجت فرقة الرقص الشعبي، أدركت بأن الحضور الكثيف ليس مستغرباً، وسيتكرر في أي حفل آخر.
«جفرا» تنهض
كان واضحاً الحضور المميّز والكثيف للفتيات ضمن الفرقة، سواء بين المغنّين، فمنهم ثلاث فتيات، مع شابين، وثمانية فتيان ضمن فرقة الرقص التعبيري وشاب واحد لم يظهر سوى مرة أو مرتين بأداء مميز. ومثله الفتيات اللواتي خرجن في الثوب الفلسطيني المطرّز، باستثناء مرة واحدة خرجن فيها بـ «بناطيل كاكي» وكنزة سوداء وكوفية، في محاكاة للباس المقاومين، وهذه النقطة تُحسب لصالح الفرقة من جانب، لكنها من جانب آخر، تحتاج إلى نظر، فوجود التوازن بين الراقصين إناثاً وذكوراً، ربما يقدّم تنوعاً في الشكل المقدّم، والأداء. ومع ذلك فالفرقة وما قدّمته ذكّرت بالفرق الفلسطينية القديمة التي لا نزال نشاهد تسجيلاتها حتى اليوم، وتحيي فينا المشاعر التي يراد لها أن تكون في المتابعين، كتعزيز الانتماء إلى الهوية الوطنية، وتعزيز العلاقة مع التراث الفلسطيني. كما أنها ذكرت بـ "جفرا" بنسختها القديمة التي كان يغني فيها زياد سحاب ويوسف الفحل وأمل كعوش.


في افتتاح الحفل، قدّم مسؤول «النادي الثقافي الفلسطيني» في بيروت عمار يوزباشي كلمة استهلّ فيها رسالة النادي، ورسالة فرقته، فقال: «سألني أحدهم هل ستحرر الأغاني غزة، هل ستوقف الكلمة القنابل؟ طبعاً لا. لن يحرر غزة إلا الكفاح المسلح والعنف الثوري ونهج وديع والعياش والحوح والحسيني ولن يحضر النصر إلا من فوهات البنادق». علا صوت التصفيق في المسرح الملآن بالكبار والصغار، بالفلسطينيين واللبنانيين، فأكمل يوزباشي كلمته قائلاً إن أعضاء النادي الثقافي الفلسطيني يرون «أن العدو غير قادر على هزيمتنا ما دمنا شعب لديه هوية وثقافة وتاريخ ورواية» وبهذه الكلمات يبدو ما قدّمته الفرقة خلال هذا الحفل الموجّه إلى أهل غزة، منسجماً مع رسالة ورؤية النادي الذي يعمل في أكثر من مخيم في لبنان، وتحديداً في مخيم البداوي في مدينة طرابلس شمال لبنان. وافتتح الشاعر الفلسطيني عبد قدورة أو وديع حداد، كما يحب أن يلقّب نفسه، الحفل بقصيدة باللهجة المحكية. قدورة وهو أحد اللاجئين في مخيم البداوي وعضو في «النادي»، له عدة قصائد غنّاها جعفر الطفار، وأخرى حاكت «طوفان الأقصى» غنّاها الفنان الفلسطيني عمار حسن.
قال قدورة في القصيدة:
«بيحكوا على غزة عروس الشام
وكانت وحيدة أمها فلسطين
وضلت وحيدتها لهالايام
عذكور معجوقين منفصلين
جاها عريس بمنهج القسام
من نسل صافي أهل نخوة ودين
حقدت عليهم جوقة الظلام
وتحاصرت وتحاربت لسنين
بيحكو ولدها كان نسر وحام
وكسر القهر بالسابع بتشرين»
العرض الممتاز الذي قدّمته «جفرا»، بشقّيه الغنائي والموسيقي من جانب، والاستعراضي الراقص من جانب آخر، لم يخلُ من بعض الهنات هنا وهناك، كخروج الراقصين من المسرح من دون تنسيق، ومن دون حركات تتواءم مع الرقصة التي كانوا يقدّمونها. إلا أن المطمئن هو سيرة الفرقة التي تستعيد نفسها، بعد انقطاع دام لوقت طويل. بعد أن قدّمت الفرقة سابقاً عشرات العروض على مسارح بيروت، وفي المخيمات الفلسطينية، لكنها توقّفت لأعوام، وهي اليوم تستعيد نفسها.
لحسن الحظ، أنا واحد من الذين تابعوا وراقبوا عودة هذه الفرقة، والتدريبات التي يتلقّونها ضمن برنامج أسبوعي لا يتخلّف عنه أحد من المنتظمين في برنامجها. وخلال حضوري المتكرر في النادي الثقافي، لاحظت أنه في مرحلة من مراحل التدريب، كان بعض مدرّبي الدبكة، من الجيل السابق للفرقة، ويبدو أن لهذا الأمر أثره العميق في نفوس الجيل الجديد، ولا سيما حين تستعاد ذكريات الفرقة في مناسبات عدة. أما المعنية بالفرقة اليوم، فهي مي خشان المنضوية في النادي منذ سنوات طويلة، وواحدة من أعضاء فرقة الدبكة، ومن الدؤوبين على تأمين ما تحتاج إليه هذه الفرقة، بمشاركة أعضاء النادي جميعاً، تحديداً مسؤوله في بيروت عمار يوزباشي.
ومن المعروف أن هذا النادي الفلسطيني، تأسّس في عام 1993 في الجامعة العربية في بيروت، كتعبير عن الرفض الكامل لاتفاقيات «أوسلو» التي وقّعتها منظمة التحرير الفلسطينية في ذلك العام من القرن الماضي. وبالتزامن تأسّست فرقة النادي التي سُميت «جفرا» ربطاً بقصة جفرا الفلسطينية المعروفة، والتي ترجمها شعراً وقصّ حكايتها الشاعر الفلسطيني المقاتل عز الدين المناصرة.
«النادي الثقافي» المؤسسة
يعمل النادي من خلال هيئة إدارية منتخبة، تسيّر أموره. وللنادي هيكلية قائمة على اللجان، ففيه لجنة الفنون، وتضم مجموعة من الموهوبين في المخيمات، يعملون على إنتاج البوسترات، ورسم اللوحات في شوارع المخيم، وغيرها من الأمور المتعلقة. وفيه أيضاً لجنة الطلبة، وقوامها في مخيم البداوي وحده أكثر من 250 طالباً. إضافة إلى لجان أخرى تعمل وتطوّر من إمكانات أبناء المخيم، في المجالات المختلفة. وجميع هؤلاء إما مروا أو يمرون باللجنة الثقافية التي «تعلم فلسطين»، وتقوم من ضمن ما يقوم به النادي، بعملية التعبئة الوطنية والسياسية.
يعمل النادي سواء في مخيم مار الياس أو مخيم البداوي، على تنمية الوعي لدى الشباب الفلسطيني والعربي داخل المخيمات. فتقريباً لا تتوقف صفوف تعليم جغرافيا وتاريخ فلسطين في النادي، وهي تستهدف كل الفئات العمرية في المخيم، وليست حكراً على أعضاء النادي الذين يُشترط لانتمائهم إلى النادي، الإيمان بفلسطين الكاملة من نهرها إلى بحرها، والإيمان بالنصر. عدا ذلك فهو بالنسبة إلى النادي تفاصيل، يمكن معالجتها، فمثلاً إلى جوار «صفوف تعليم فلسطين» هناك صفوف التقوية في المواد المدرسية، ورغم الوضع المادي الصعب للنادي، فهو لا يعجز عن إنجاز هذه الدورات، واستجلاب المعلمين للنهوض بتعليم اللاجئين وسكان المخيمات. ولعل المتابع لنشاط النادي، وحتى الزوار له، يعلمون أنه نادٍ مقاطع لكل ما يمتّ إلى الشركات الداعمة للاحتلال، بالتزام كامل بمعايير المقاطعة.
تلك المواقف والتوجهات والإيمان، لدى أي جهة فلسطينية أو عربية أو عالمية، لن تجد من يموّلها، لكن في حالة النادي الثقافي الفلسطيني، هو لم يطلب مالاً من أحد، ويؤمن القائمون عليه باستقلاليتهم، والعمل بما أمكن. وبذلك ربما هو الحالة الفلسطينية الوحيدة، وبعض التجارب المماثلة -على قلّتها- كنادي النقب في مخيم برج البراجنة، غير مموّلة على الإطلاق. ويعتمد النادي في تمويله على العاملين من أعضائه الحاليين والسابقين، ولا سيما الذين يعيشون في بلاد المغترب. فهذا مثلاً أنقذ «النادي الثقافي الفلسطيني» في مخيم مار الياس، بعد ما اتخذت إدارته المنتخبة قراراً بشراء مكان في المخيم بدل الإيجار. فقد تغيّر مقر «النادي» في المخيم عدة مرات، وفي كل مرة بسبب ظروف مختلفة. فأُبلغ أعضاء النادي بالقرار، وبدأ العمل على جمع المبلغ اللازم من الأعضاء القادرين في لبنان وأولئك الذين يعيشون في المغترب، وحركات شبابية خارجية، مثل "حركة الشباب الفلسطيني" في كندا و"حركة الحرية لفلسطين" ونقابات عمال وسكان أصليين، كما تمت استدانة مبلغ من بعض الأصدقاء. هذا الفعل كان الغرض منه تأمين استقرار النادي من أجل تمكّنه من تأدية رسالته الوطنية مع الشعب الفلسطيني في المخيمات.
ولعلنا اليوم، بعد العدوان على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، نحتاج كشعب وكتاريخ وصيرورة، إلى أدوار كالتي يؤديها النادي الثقافي -على سبيل المثال لا الحصر- لاغتنام الفرصة التي وفّرتها غزة، بأن أعادت فلسطين إلى خريطة الوعي، ليس العربي والعالمي فقط، بل الفلسطيني أيضاً. وبعد انتفاضة الوعي هذه، صارت الأجيال القادمة الفلسطينية والعربية، أمانة في عنق كل من لديه المعرفة والقدرة على العطاء.