لطالما كان التضامن الطالبي مع فلسطين ركناً أساسياً في تنظيم الحركات الطالبية، وليس فقط في الغرب، إلا أنّه يتجذّر في السياقات الطالبية الأوروبية أو الأميركية أو البريطانية بفعل القمع الذي يواجهه الطلاب في المؤسسات الأكاديمية، والتي قد تسعى إلى توظيف الأكاديميين الفلسطينيين، واختيار النخب التي ستتلقى الأجور العالية مقابل قولبة خطابهم وجعله غارقاً في محاربة التواطؤ الأكاديمي الغربي.ففي هذه السياقات، عادةً ما يُصبح الأكاديمي الفلسطيني رصيداً قابلاً للاستيعاب وإعادة التشكيل. بيد أن الوضع للطلاب يختلف تماماً، فتتباين المعايير بشكل جذري، وتتحرك أجهزة الدول كاملةً لقمع الحراك الطالبي، ولذلك أبعاد طبقية عدّة بالطبع، لكن، في الوقت نفسه، لا يمكن السيطرة على الحركات الطالبية التي تنتشر بشكل حر وسريع، وتملك سلاحين مهمّين هما: النوستالجيا للنضالات وانتصارات الحراكات الطالبية السابقة حول العالم، والقدرة على التعاون بشكل واضح وعلني مع المجموعات القاعدية الخارجة عن «القانون» (أي الممنوعة من دخول الحرم الجامعي، وهنا أقصد تحديداً المجموعات والأحزاب السياسية الجذرية في السياق الغربي وخارجه).
لكن اليوم، نشهد درجات متباينة من القمع يواجهها الأكاديميون والطلاب معاً، وخاصة الأكاديميون الذين يحاولون حماية طلابهم بأجسادهم، ويتمّ اعتقالهم بفعل ذلك. يُسلّم الطلاب والأكاديميون كأكباش فداء، وكعربون وفاء وإخلاص لمموّلي الجامعات الأميركية، بينما يتجاهل الإعلام الأميركي إسرائيل التي يحبّ، مركّزاً، بدلاً من ذلك، على سلامة الطلاب اليهود من الشعارات المناوئة («كولومبيا»، التي تمثّلها نعمت شفيق - منوش، وجه البورجوازية المصرية، والتي تقدّم التضحيات بالموظفين والطلاب، تقع أيضاً في فخ الهستيريات الإعلامية بطريقة مماثلة لكيف وقعت «هارفارد» أيضاً).
وفي الواقع، هناك احتجاجات طالبية شبيهة في بريطانيا، من حيث احتلال أقسام أو مبانٍ في الجامعات، كجامعة غولدسميث مثلاً، لكنّ التفاعل مع الجامعات الأميركية هو بفعل القمع الذي تحرّكه أجهزة الدولة وإدارة الجامعات بحق الطلاب، بعكس التكتيكات البريطانية التي تركّز على معارك الاستنزاف الشخصي للطلاب القياديين في التحركات، فيتم اتهامهم بشكل فردي بمعاداة السامية ودعم «الإرهاب». وذلك يرتبط أيضاً بمكانة جامعات كـ«كولومبيا» و«هارفارد» في السياق الأميركي، حيث تُفهم جامعات النخبة على أنّها رموز للهوية الأميركية، وترجمة لعظمة المشروع والحلم الأميركيين.
تصريحات المجموعات الطالبية برفض تحويل نضالهم إلى مجرّد معركة من أجل حرية التعبير قد تكون أهمّ خطوة حالياً


وتركيز الإعلام الأميركي بشكل أساسي على «الحرم الجامعي الأميركي» الذي تنتهكه هتافات فلسطين، وغياب أخبار غزة بشكل كامل، هو ليس إلّا تكتيكاً آخر تعتمده، ليس بهدف التمييع أو الإلهاء، بل أيضاً بهدف إعادة توجيه الحراكات الطالبية نحو مأزق «الديموقراطية الأميركية».
في كل مرّة تفضح فيها فلسطين الهياكل الأكاديمية والثقافية والسياسية وغيرها (التي تُحبّ تأريخ القضية وأرشفتها والكتابة عنها كفلسفة مجرّدة خارج التاريخ وخارج الحياة أصلاً)، تأتي كل أجهزة الدولة، من إعلامها ومثقفيها ونخبها وقضاتها، بهدف إعادة توجيه النظر نحو أميركا «مركز الكون»، وأساس «النضال السياسي» ومعرّفه، فنجد أنفسنا في نفس نقطة التوتر بين الاعتراف بأهمية الاعتصامات الطالبية، وعدم جدواها، أمام أهوال الأخبار والمجازر اليومية في غزة. وفي كل مرة تلتفت فيها عيوننا إلى ما هو أبعد من التناقضات الأميركية، تقول أميركا: عودوا للنظر إليّ، في النضال وفي القمع.
وفي الحقيقة، إنّ الطلاب الذين نشاهدهم هم فعلياً يبدأون في تشكيل ارتباطاتهم السياسية مع فلسطين، وتصريحات المجموعات الطالبية برفض تحويل نضالهم إلى مجرد معركة من أجل حرية التعبير قد تكون أهم خطوة حالياً، ففي كل مرة، نجد نوعاً من الخطاب السياسي الجذري في الغرب، يُقمع ويتحوّل فوراً إلى «الكفاح من أجل الحق في التعبير» والحق في السرد، من دون أي اهتمام بالالتزام بالمقاومة والتضحية في وجه الإبادة الجماعية، وبذل كل جهد ممكن لمنع المموّلين الرئيسيين لإسرائيل من الاستمرار في دعمها. وكلّ ذلك مهمّ الاعتراف به، في اللحظة نفسها التي نفهم وندرك فيها أن جامعات غزة دُمّرت بالكامل، وأنّ صوت الطلاب في الدول العربية شبه غائب.
وهناك من الأكاديميين من تأتي تصريحاته متأخرة 200 يوم؛ ولا يمكن إنكار حقيقة أنّه على مدار الأشهر السابقة عُمّم الصمت في ما يتعلّق بالقمع الذي تتعرّض له الأصوات الأكاديمية التي دعمت المقاومة - جوزيف مسعد وآخرون. ومن الواضح أن الأكاديميين يقيّمون «المخاطر» بشكل مختلف؛ فبالنسبة إلى المفكرين المناهضين للاستعمار، مثل سبيفاك، التي لا تزال صامتة وتتخذ وضعية النعامة، فحتى لو قرّرت التحدّث، فإنّ الجميع يدرك بالفعل أن الأمر يتعلّق بالكاميرات والأضواء.
تخيف فلسطين هؤلاء الأكاديميين، كما تخيف الإدارات الجامعية وأجهزتها، وذلك بفعل قدرة اعتبار فلسطين نقطة انطلاق لفهم درجات وطبقات التواطؤ الأميركي، وكيف يجعل هذا الواقع من الكل، سواء الطالب أو الأستاذ أو رجل الأمن، في عملية دعم غير مباشر للاحتلال. لذا، تتجذّر الأصوات أكثر فأكثر مع مرور الوقت، وتصبح أكثر تركيزاً على محاربة فكرة التجريم ومفاهيم البراءة أصلاً، فيهتفون لـ«القسام» من نيويورك من دون أي مراعاة لأيّ لوائح إرهاب، وهذا بالضبط ما يجب التركيز عليه من ناحية التضامن لأيّ شخص داخل السياقات الأكاديمية: العمل ضدّ البراءة، وضدّ لوائح الإرهاب، وضدّ محاولات المساومة على اللغة في وجه الإبادة.