وزراء الطوائف حاولوا تعديله... والسنيورة حاول تشتيتهرشا أبو زكي
استلزم الحكومات اللبنانية المتعاقبة 5 سنوات كاملة لإقرار المخطط التوجيهي الشامل لترتيب الأراضي اللبنانية، 5 سنوات كان المخطط يدرج على جدول أعمال حكومة فيكون مصيره الجارور. يجري إيراده في البيانات الوزارية، ومن ثَمّ يُهمَل... وعلى الرغم من أن هذا المخطط يرمّم الفوضى الضخمة السائدة في التنمية المناطقية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية في لبنان، إلا أن عدم إيلائه الاهتمام اللازم كان إشارة صارخة إلى أن السلطات اللبنانية لا تريد تحقيق هذه الأهداف التنموية الشاملة... وبعد 5 سنوات، أقرت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الثانية في مرسوم رقمه 2366 بتاريخ 20 حزيران 2009 المخطط التوجيهي الشامل، إلا أن المرسوم لم يكن كاملاً، والسنيورة لم يكن راضياً، فحاول الالتفاف على المخطط بطرق أخرى.
فالمخطط التوجيهي الشامل يعيد تنظيم الأراضي اللبناني وترتيبها، وذلك وفق دراسة علمية دقيقة. وهدف المخطط يتمحور حول تنظيم عمل الإدارات، بحيث يُحدَّد نوع المناطق المستهدفة بمشاريع تشمل جميع الوزارات، من الصحة إلى الاتصالات والنقل والزراعة والصناعة والاقتصاد والتربية، وتُوجَّه هذه المشاريع بحسب المعطيات الاقتصادية والمناخية والاجتماعية والسكانية، لتنظيم المشاريع وعقلنتها من جهة، وتوجيه الاستثمارات نحو حاجات المناطق من جهة أخرى... وهذا الهدف يستدعي بطبيعة الحال تعديل كل المخططات التوجيهية المعتمدة للمناطق اللبنانية حالياً لتنسجم مع مخطط شامل موحد وعصري لا تعوقه شائبة تنظيمية أو فوضوية، ويحقق نوعاً من التكامل بين المناطق اللبنانية من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والعمرانية وغيرها... إلا أن المادة الثالثة من المرسوم 2366 أشارت إلى أنّ «على الإدارة المعنية عند درس مراسيم وأنظمة تتعلق بترتيب الأراضي أن تراعي أحكام هذا المرسوم» فيما «تبقى المراسيم والأنظمة التي تحدد استعمالات الأراضي، والصادرة قبل المرسوم 2366، ولا سيما منها المخططات التوجيهية والأنظمة التفصيلية للمدن والقرى سارية المفعول، ما لم تُعَدَّل»! وبالتالي، إن الترجمة الفعلية لهذه المادة هي أن الفوضى القائمة في المشاريع وترتيب الأراضي ستستمر، وستبقى المخططات التوجيهية المتناثرة على حالها، ولن تتقيّد بإقرار المخطط التوجيهي الشامل، في حين أن ما سيصدر عن الإدارات من تاريخ إقرار المرسوم 2366 وصاعداً سيلتزم فقط بالمخطط التوجيهي الشامل!
أما الفعل الثاني الذي قامت به الحكومة، فظهر في مفارقة عجيبة، بحيث أقرت قبل شهر من إقرارها المخطط التوجيهي الشامل، أي في أيار الماضي خطة تقدم بها رئيس الحكومة فؤاد السنيورة تحت عنوان «رؤية لإنماء المناطق اللبنانية»، فعلّق الخبير الاقتصادي جورج قرم على هذا الموضوع قائلاً: «إن السنيورة «أعدَمَ» المخطط التوجيهي الشامل الذي أُعدّ منذ سنوات ليرسم طريق الاستثمارات الحكوميّة»، فيما رأى آخرون أن خطة السنيورة جاءت سطحية وخطابية ولا علاقة لها بالخطط الإنمائية، وأن هدفها محصور بضرب المخطط التوجيهي الشامل... فلماذا يخاف السنيورة (كما الحكومات السابقة) من المخطط التوجيهي؟ وهل تقديم السنيورة خطة إنمائية سطحية وغير تنموية هدفه بريء أم هو محاولة لقطع الطريق على تطبيق المخطط التوجيهي؟

خائفون... من التوازن!

في عهد رئيس الحكومة الأسبق سليم الحص، بدأ الكلام عن إعداد المخطط التوجيهي الشامل لترتيب للأراضي اللبنانية، لكن لُزِّم البدء بإعداده في عام 2001 في ولاية رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، وقد انتهى العمل بهذه الخطة عام 2004، وكان من المفترض أن تقرّ، لكن ذلك لم يحصل. إلا أن هذه الخطة وردت في البيان الوزاري لحكومة الرئيس السابق عمر كرامي، وعندما أصبحت قيد النقاش في مجلس الوزراء، حدث اغتيال الرئيس الحريري. وقد أعيد إدراج خطة ترتيب الأراضي في عهد الرئيس نجيب ميقاتي، إلا أنه طلب أن تُرسل الخطة إلى مجلس الشورى للأخذ برأيه، (على الرغم من أن مشروع الخطة ملزم بطبيعته للإدارات العامة، ولا يمسّ المواطنين مسّاً مباشراً). ومن ثم جاءت حكومة فؤاد السنيورة الأولى، وجرى التغاضي عن المخطط التوجيهي كاملاً.
وفي 6 تشرين الثاني من العام الماضي عرض المخطط التوجيهي الشامل في جلسة لمجلس الوزراء وتقرر تأليف ﻟﺠﻨﺔ برئاسة نائب رئيس الحكومة ﻋﺼﺎﻡ أبو جمرا، ﻭﻋﻀﻭية ﺍﻟﻭﺯﺭﺍﺀ: ﻏﺎﺯﻱ ﺍﻟﻌﺭيضي، محمد ﻓﻨﻴﺵ، محمد ﺍﻟﺼفدي، نسيب ﻟﺤﻭﺩ، ريمون ﻋﻭﺩﺓ، محمد شطح وزياد بارود، وإذا باللجنة تعقد أول اجتماعاتها في 20 تشرين الثاني، وهنا مكمن الحكاية... إذ فضحت الانقسامات التي دارت خلال جلسات اللجنة الوزارية، سبب الخوف الكبير الذي تشعر به القوى السياسية من المخطط التوجيهي الشامل، أو بالأحرى من أي مشروع وطني تنموي جامع، إذ تمحور النقاش حول التحاصص المناطقي والطائفي والمذهبي للمشاريع، علماً بأن عدداً من المجتمعين لم يقرأ المخطط كله، فحصر قراءته بالجزء المتعلق بمنطقته، وبدأ سيل التوليفات، ومعظم الحاضرين بدأوا في المزايدة بتحصيل أكثر عدد من التغييرات في أجزاء المخطط التي تتحدث عن مناطقهم أو المناطق التي لديهم فيها نفوذ حزبي أو مذهبي! لا بل إن أحد الحاضرين رفض مناقشة المخطط التوجيهي الذي من الممكن أن يحقق تنمية شاملة ومتكاملة، والسبب: «لقد صيغ على أيام الاحتلال السوري»! وبالتالي سيطرت على الاجتماعات السلوكيات التي يهدف المخطط التوجيهي إلى إلغائها عبر رؤية وطنية للتنمية، لا فئوية!
وبالنتيجة، وُضعت جملة ملاحظات، أهمها بحسب ما يؤكد وزير المال محمد شطح، أن «بعض أعضاء اللجنة كان لديهم تحفظات على بعض التعابير التقنية، ومن جهة أخرى يحدد المخطط «أقطاباً محلية» وهي عبارة عن مناطق أساسية في المحافظات، هي بمثابة المحور الذي ينتظم حولها نشاط المناطق الأخرى في المحافظة نفسها. وهنا اقترح بعض الأعضاء تحديد «الأقطاب المحلية» وفق القضاء لا المحافظات، إضافة إلى تخصيص عدد من المناطق مميزات تفاضلية إضافية، وكان الحل أن لا يُعدَّل المخطط، بل انتظار الحكومة المقبلة لإقرار اللامركزية الإدارية، لكون هذا البند متوافق عليه، وبذلك يصبح الواقع الإداري مختلفاً، وتجري المواءمة بين هذا الواقع الجديد ومعطيات المخطط التوجيهي الشامل».
وبعد محاولات عسيرة، أُرفقت هذه الملاحظات مستقلة بالمخطط التوجيهي، ورفعت اللجنة تقريرها للحكومة، فأقرت الأخيرة المخطط التوجيهي في مرسوم من دون أية تعديلات على نص المخطط. ويرى المهندس الاقتصادي شربل نحاس، الذي كان إسهامه أساسياً في إعداد المخطط المطروح، أن عدم تضمين المرسوم بنداً يلغي المخططات التوجيهية السابقة، لا بل تأكيد استمرارية هذه المخططات في المادة الثالثة منه، يُعَدُّ تناقضاً، إلا أن نص المرسوم كما أُقر تمت صياغته في عام 2004، ولما كان سيُقبَل به لو أنه لم يتضمن المادة الثالثة، ويُعَدّ إقرار المخطط خطوة مهمة، فقد أصبح هنالك مستند رسمي للمحاججة به في سبيل تحقيق إنماء شامل ومتوازن، وهو حائز موافقة «حكومة وحدة وطنية»، وبالتالي لا يستطيع أي طرف التبرؤ من نتائجه، لافتاً إلى أن الجهد يجب أن ينصبّ حالياً، في كيفية الربط ما بين المخطط التوجيهي وكل الالتزامات التنفيذية والتطبيقية المقبلة.

وما علاقة السنيورة بالتنمية؟

وإن كان البند الثالث يكرس واقع المحاصصات ولا يلغيه، فإن خطة السنيورة «لإنماء المناطق اللبنانية»، هي محاولة لإلغاء المخطط التوجيهي نفسه، إذ إن الخطة جاءت كـ«تجميعة» لعدد من تصريحات السنيورة، ولم تتطرق إلى المخطط التوجيهي الذي أصبح حكماً هو المرجعية القانونية لأي مشروع سيُنفَّذ! ليصبح جلياً أن هدف خطة السنيورة خلق إرباك في المشاريع التي ستُنفَّذ في المستقبل!
إلا أن شطح لا يرى الأمور في هذا الاتجاه، إذ يشير إلى أن المخطط التوجيهي الشامل وخطة السنيورة يتكاملان، «فكلاهما مختلفان من حيث الرؤية، وكلاهما لا يُعَدان خطة تنفيذية، بل نظريات لتوجيه العمل التنموي»، مشيراً إلى أن المخطط التوجيهي يعتمد على نظرة جغرافية للبنان ورؤية تنظيمية تنموية في المناطق، ويعطي صورة عن لبنان وكيف يمكن أن يصبح، أما خطة السنيورة فهي تدخل أكثر في السياسات التنموية والقطاعية».
أما نحاس، فيلفت إلى أن هذه الخطة لا تمثّل أي خطر على المخطط التوجيهي، إلا أنها تشتت البحث التنموي، فهي ورقة «من كل وادٍ عصا»، حيث يتداخل موضوع التنمية مع انتقائية في تحديد المشاريع، مع موضوع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، مع تفاصيل «من حواضر البيت»، بحيث تتضمن تعليقات على قضايا كانت محور خلاف بين السنيورة وعدد من الوزراء، لتنتهي في النتيجة إلى تشكيل ورقة هجينة غير مترابطة.


5 ملايين نسمة

هو عدد سكان لبنان في عام 2030 وفق ما يشير المخطط التوجيهي الشامل، الذي يلفت إلى أن الكثافة السكانية في لبنان هي واحدة من الأكثر ارتفاعاً في العالم نسبة إلى مساحته، وبالتالي يجب العمل وفق المخطط التوجيهي لتوفير الوظائف والحاجات الضرورية للحياة إن كان في ما يتعلق بالمياه أو الأراضي الزراعية


إلزامية التقييد بالمخطط