وائل عبد الفتاحانفصام الشخصية (الشيزوفرينيا) هو أبرز علامات الأخلاق المستبدة في مصر. جعلت المجتمع يعيش مرحلة «فيكتورية» (نسبة إلى العصر الفيكتوري في بريطانيا) بكامل فصامها وحركتها بين العلني المحافظ والسري المتهتّك

الدعارة العذراء وشيزوفرينيا المجتمعوقبل أن تكمل، لمحت في المرآة الدهشة تأكل وجه السائق العجوز. تركت فضوله يكبر وقبل أن ينفجر قالت له: «على فكرة كان زماني عشت هنا ومت هنا لو ما عرفتش طريقي. تعرف أنا الطلعة بتاعتي بكام؟» الدهشة لم تجعله يردّ، فأكملت: 500 جنيه. هنا عرف السائق أن «البرنسيسة» فتاة ليل. لكنه قبل أن يكمل تفاصيل الصورة المحفوظة في ذهنه أكملت له: «لكنني لسه بشرفي». وتبعت «لسه بشوكي»، أي لا تزال عذراء.
«الدعارة العذراء» ظاهرة مصرية بجدارة. ارتبطت بصعود النفاق الاجتماعي إلى حدود تحوّل فيها إلى واقع متفق عليه. لم يعد غريباً أن يعمل رجل قوّاداً بشكل أو بآخر، ثم يخرج ويهتف في تظاهرات تهاجم الفساد الأخلاقي. ولم يعد غريباً أن تقرر فتاة تغطية جسدها بالحجاب، ثم تبيعه لمن يدفع.
لم تعد هذه الظواهر تثير الدهشة. هناك فوضى فوّارة تختصر القيم والشرف والأخلاق في علامات شكلية: ملابس حشمة، زبيبة صلاة، صوت منخفض وحجاب على الرأس. كلام كله يبدأ بقال الله وقال الرسول، علامات لا تعني في الغالب إلا أن صاحبها يعرف الطريق إلى خداع المجتمع. وبعد قليل، يخدع المجتمع نفسه ويضع قواعد للنفاق.
فالمرأة تنام مع رجل لا تحبه لأنه يملك الثروة أو السلطة، لكنها لا تحاسب كعاهرة لأن بينهما ورقة زواج. والرجل يمكن أن ينام مع العاملات في أرضه، لكنه يعتبر نفسه الشريف العفيف الذي يلوي شفتيه عندما يرى امرأة ترتدي ملابس خفيفة تشعرها بالحرية، ويغمز لمن حوله: «عاهرة».
هذه عوارض انفصام في الشخصية (شيزوفرينيا) كاملة الأوصاف. وأعراضها وصلت إلى الظاهرة الجديدة: مومس وعذراء. تبيع جسدها، لكن ترفع عليه لافتة: ممنوع الاقتراب من غشاء البكارة.
وبدلاً من أن تتعلّم المراهقة في بيتها كيف تواجه الحياة الصعبة، تتقن دروساً أخرى في ما يسمى: الجنس الآمن.
أرقام شرطة الآداب تقول إن ٦٠ في المئة من المتهمات في قضايا ممارسة الدعارة خلال السنين الأخيرة عذراوات. الحالات الفردية تحوّلت إلى ظاهرة، نواتها بنات جامعات وعائلات مستورة ومحترمة تنتظر فرصة القفز إلى أعلى. وتبحث عن رجل يدفع فاتورة الهاتف المحمول وإيجار البيت وقسط السيارة.
تجلس في المقاهي الغالية، حيث تجري الصفقة: بيع الجسد في مقابل الحياة اللذيذة. وهي صفقة عادلة تماماً من وجهة نظر بنت الليل، التي تتعامل على أن أجرها ضريبة يدفعها الرجل لها وحدها نيابة عن ملايين الجائعين والمحرومين من عطف الحكومة والمجتمع.
إنه أحد قوانين عالم بيع المتع الرخيصة. العالم السري أو الرقيق الأبيض. كلها مسمّيات مرعبة لم تمنع يوماً فتاة جديدة من أن تلتحق بجيش بائعات الهوى. تجارة المتع السرية هي ميزان حرارة أي مجتمع. تكشف خباياه وأمراضه وحالته التي لا يظهرها إلى العلن.
والحكاية ليست فقط بنت فاسدة تعلمت مبكراً الاستفادة من جسدها، بل موجة جديدة من بيع الجسد مقابل تلمّس متع الحياة. المجتمع، الذي يرفض ويغلي لمجرد سماع سيرة فتاة ليل تعيش في الشارع، يخفي رأسه في الرمال. الموجة الجديدة تكشف تواطؤ مجتمع لا تزال فيه الذكورة مقدسة، حتى إن كان الرجل يجلس في البيت بلا عمل.
ترى العجب في القاهرة: ملهى ليلي يفتح أبوابه في النهار، كباريه صباحي يبدأ عمله من الثانية عشرة ظهراً إلى العاشرة مساءً. هنا تنتهي وردية كاملة وتخرج الفتيات كأنهن أفواج عاملات في مصنع.
مصنع الجنس يحدث فيه العجب: بنات الصالة يقدّمن أي خدمة للزبون من القبلة إلى اللمسة. يجري هذا علناً وعلى الطاولات. البنات عاديات لكنهن شابات ولسن محترفات في تقديم خدمة المشروبات. إنهن هاويات لمسات وقبلات في مقابل أموال قليلة. مشهد الخروج مثير. فالبنات يرتدين ملابس الشارع: حجاب وعباءة وجاكيت «طويل حشمة»، ويخرجن في طوابير حتى يذبن تماماً في بحر البشر في الشوارع.
والحكايات التى تصلح لإثارة الدهشة لا نهاية لها: فتاة تعمل من أجل استكمال مصاريف زواجها وخطيبها ينتظرها على الباب. لا يجرؤ على الدخول فخطيبته في العمل. وأخرى تصرف على عائلة من النساء بعدما هرب الأب. والغالبية تنتهي علاقتهن بمهنة بيع المتع الرخيصة عند باب الكباريه الصباحي، تعود الواحدة منهن بعدها إلى حياتها العادية، وهي تشعر بأنها نصف شريفة، وستغسل ذنوبها في يوم من الايام لأنها لم تجعل أحداً يمس غشاء البكارة إلا في الحلال.
ضحايا؟ غالباً. فالمجتمع الآن طارد، ليس بسبب الفقر واحتكار الثروة وسرقة حقوق وفرص ملايين الطامحين للخروج من نفق الحياة التعيسة، لكن أيضاً بسبب لعنة النفاق. البنت تخسر سمعتها عندما تبيع جسدها. لكنها تكسب الأمل في رجل متسامح، أو لا يعرف وهي تحتفظ بـ«علامة الجودة»، التي يراها المجتمع أهم وأعظم من قيم العمل والاحترام.
وبإمكان رجل عاطل أن يشعر بأنه أفضل من فتاة اضطرت إلى بيع جسدها كآخر شيء تملكه، في زمن لا يملك فيه أكثر من نصف المجتمع شيئاً لبيعه حتى.
الشرف اختصر في غشاء يمكن ألّا تولد به البنت أساساً. والبنات عرفن الطريق إلى خداع مجتمع مغرم بالخديعة. المجتمع ينام مرتاحاً بينما تبيع بنات في سن المراهقة الجسد الطري من أجل الاستمرار فى الحياة.
ولا يسأل المجتمع: لماذا تذهب الفتاة إلى مصيرها في عالم الليل السريّ؟ تعود البنت من رحلاتها الليلية بغشاء البكارة بعد أن تخفض أجرتها لزبون متسامح. تبحث عن رجل آخر تحبه ويتزوجها. وبين رجل اشترى ضعفها وآخر أحبّته يبقى الجرح لها وحدها. فهي نفسٌ ممزقة، مجروحة، تحتقر نفسها ولا تستطيع الاستمتاع بأجمل متع الدنيا: الحب. والمجتمع لا يحاسبها، فهي ترفع غشاء البكارة في وجه الجميع، وتتحدّى: أنا مومس لكنني عذراء.

التحرش في الكمين


كيف تحوّل الأمن في مصر من مصدر حماية إلى ملهم للرعب. حكايات كثيرة تُروى عن ممارسات شرطية تنفّر المصريين، ويهدّد تراكمها بفوضى وثورة لملايين المقهورين
لم تصدّق الفتاة أن رجل الشرطة قرر أن يفتشها بنفسه وفي الشارع. تصوّرت أنها تحلم. رجل يعبث بجسدها، وهي بالكاد تخمن أنه رجل شرطة. فهو يرتدي ملابس مدنية، لكنه يقف في قلب الكمين الليلي المجاور لمركز شرطة المعادي. في البداية تحرك إلى حيث تجلس في المقعد الخلفي وطلب أوراقها. وبينما تفتح حقيبتها، انتقل هو مباشرة إلى الخطوة الثانية، وبدأت عملية العبث في جسدها وهو يبتسم «تسمحيلي افتشك». أخرستها الصدمة والوقاحة المتناهية، أبعدت يده وهي تكتم صرختها، حبست دموعها، ولم تنفجر إلا عندما غادرت السيارة الكمين. دموع تحولت إلى بكاء هستيري. لم تنجح محاولات الأصدقاء في التهدئة، ولم تنجح هي نفسها في إيقاف سخونة الحسرة والغيظ المكتوم. هي طبيبة أسنان سودانية، درست وأقامت في مصر منذ ٧ سنوات. وكانت في صحبة صديقات سودانيات: صحافية، وطالبة في الجامعة الأميركية. الحظ العاثر أو القانون السري، الذي يحكم مصر، جعلهن عرضة لواحدة من حفلات التسلية الليلية.
كيف تحوّلت كمائن حفظ الأمن الليلية إلى مسارح استعراضات الإهانة؟ ولماذا تحوّل رجل الشرطة من حامي الحقوق إلى بلطجي يفرض قانونه الخاص على الناس؟ وهل الشرطة سعيدة لأن الناس تشعر بالرعب لا بالأمان كما يُفترض؟
الضابط يتحوّل إلى فرعون في اللحظة التي ينسى فيها الناس حقوقهم. تكبر سلطته بسرعة غير عادية لأنها وحدها من دون قانون يوقفها، أو قيم عمومية تضع للهوس باستعراض السلطة حدوداً. يتحول الضابط من حامٍ للأمن إلى خطر عليه، والكمين من حاجز لنشر الأمن إلى مصيدة للضعفاء والضحايا.
الضابط يتعلّم من كلية الشرطة أن سلطته بلا حدود، وأن أهمّ ما في وظيفته هو شعوره بالعظمة. فينتفخ الضابط من يوم تخرجه ويرتبط نجاحه بفرض سلطانه لا بمهارات حفظ الأمن.
وهذا ما أوصل كمين الشرطة إلى هذه الحال. أصبح ملعباً لاستعرض الذكورة، رغم أنها ذكورة منقوصة تعتمد على ضعف الضحية وعجزها.
يحتاج الموضوع إلى إعادة نظر في تربية ضباط الشرطة. وهي أول خطوة في الإصلاح السياسي، لأن رجل الشرطة هو الرمز اليومي للسلطة. الناس لا يتعاملون يومياً مع الرئيس أو الحكومة، لكنهم يحتكّون في كل لحظة بممثل للأمن. هو صورة السلطة ويدها التي إمّا أن تمدّها لمصافحة المواطن، أو للكمه. من هنا توحشت سلطة «الباشا»، وهو اللقب الذي يفرضه الضابط لكي يناديه به الناس.
غياب القانون عن علاقة الشرطة بالمجتمع، يحوّل «الباشا» إلى فتوّة مافيا يفرض سلطته على هواه، ووفق مزاجه الشخصي والأخلاقي، وهو ما يخلق حزازات تهدّد بانفجار وفوضى.

ديموقراطيّة الفضيحةيتحرّك الخط الأحمر بإيقاع سري تتحكم فيه شبكة العلاقات. وهذه «ديموقراطية» تعيش على فتات الصراع بين «ديناصورات» المال والسلطة. هي أولاً تحمي نخبة مقدسة، أو تتستّر عليها واضعة أخبارها في مصافّ المحرمات الكبرى. الصحف تعرف حدودها جيداً. والناس في المقاهي والشوارع وجلسات النميمة غير المراقبة يستهلكون عدداً لا بأس به من قصص مهرّبة خارج السور السياسي العالي. يستهلكونها ولا يرتوون، فتخرج النكات اللاذعة عن الشخص المحرم. تليها الفضائح والأساطير المستوحاة من ألف ليلة وليلة عن أشخاص كانوا خلف الخط الأحمر، لكنهم وبسبب «ديموقراطية» اليد العليا، خرجوا وأصبحوا أبطال الحكايات السرية للناس.
لعبة فريدة تستفيد من فكرة المعلومات المحرمة وتسرب ما تريده من حكايات. كأنها تعلن الحقيقة كاملة. تتركّز الأسرار في مساحة لها شعبية، مثل الجنس والمرأة. من يوسف عبد الرحمن وراندا الشامي، إلى فياغرا محمد الوكيل مروراً برجب هلال حميدة وأخيراً حسام أبو الفتوح، حيث ردمت «الفضيحة الجنسية» المعنى السياسي لفساد رجال كانوا خلف الخط الأحمر. منطق الفضيحة رائج وشعبي. الشخص المهم يقيم حوله سياج كبير تدار خلفه حياة كاملة بعيداً عن الأنظار. والمسافة بين المعلن والسري أصبحت كبيرة جداً، توازيها المسافة بين مستوى معيشة «الشريحة الرقيقة» وباقي الشعب. أصبحت الثروة حجاب يستر صاحبها عن أعين المتلصّصين. يحميها بعلاقاته وحراسه. ولأنها ثروة مشكوك في مصدرها أو شرعيتها، فإنها تعدّ من وجهة نظر العامة، خارج الأسوار العالية، «حراماً». وهو ما تجسده المخيلة الشعبية في سهرات ماجنة ونساء عاريات ومتع لا حدود لها.
لهذا يتشفى الناس في صاحب الفضيحة تعويضاً عن موقف سياسي غير مسموح بالتعبير عنه. فالكلام في الفضيحة الجنسية لا يدخل في قائمة الممنوعات، على عكس الاقتراب من حقائق الفساد السياسي. وهكذا مع كل فضيحة، يزداد المجتمع تعلّقاً بالجانب الأخلاقي المحافظ كردّ فعل على فساد النخبة.
وها هو المجتمع المحروم يقتات بالتعبير عن نفسه من الفضائح، لتتداخل الأخلاق مع السياسة إلى درجة يُعدّ فيها التزمّت والانغلاق قمة التعبير عن المعارضة السياسية.