بفارغ الصبر، ينتظر رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية، فايز السراج، نصر قوات مصراتة على تنظيم «داعش» في مدينة سرت. استعادة المدينة وإنهاء الحالة «الداعشية، المقلقة للغرب، سيكونان بمثابة انعطافة مهمة في مسيرة السراج السياسية». فمِن بعدها، سيزيد رئيس الحكومة الدعم الدولي لحكومته، وسيرتفع رصيده الشعبي، ولا سيما في المناطق الغربية، وسيحرج البرلمان المتمنع حتى الآن عن منح الثقة لحكومته، وسيضعف موقف قائد الجيش، خليفة حفتر، الرافض لفكرة خضوعه لإمرة الحكومة.بنتيجة معركة سرت، سيضرب السراج بأكثر من مكان في لحظة واحدة، ويضع المشككين بقيادته في موقف لا يحسدون عليه. تبدو المدينة مفتاحاً للكثير من العقد في المشهد الليبي، وما يصل من أصداء المعركة فيها يرجّح التفوق الميداني لقوات مصراتة المتحالفة مع السراج؛ لكن تبقى المدينة وشوارعها وأزقتها، حيث يتحصن «داعش»، المهمة الصعبة والمرتقبة في هذه المواجهة. ورغم كثرة الدم المسال، تمكنت قوات مصراتة من مفاجأة العالم أجمع، ما دفع إلى التساؤل عن حقيقة قوة تنظيم داعش في سرت، وفي ليبيا عموماً. ترى، هل ضُخِّم حجم «داعش ليبيا» إعلامياً أكثر من اللازم؟ وهل كان تقدير القوة العسكرية للتنظيم مبالغاً فيه؟
الغرب دمّر البلاد ونشر الميليشيات... ليبدو الآن حمامة سلام

المشهد الليبي الذي تعمّه الفوضى العارمة، هو نتيجة طبيعية للتخلي الغربي، الفرنسي والبريطاني تحديداً، عن البلاد بعد إطاحة نظام العقيد معمر القذافي. ملأت الفراغ في السلطة مختلف الميليشيات التي تنازعت وتقاتلت في ما بينها، بتمويل عربي خليجي.
تغضب الولايات المتحدة من حلفائها الأوروبيين بسبب ما يجري في ليبيا. فالأخيرون هم من أقنعوا الرئيس الأميركي باراك أوباما بوجوب إطاحة نظام القذافي، وأصرّوا على الأمر. وهم من «ضربوا على صدورهم» وتحملوا مسؤولية الإمساك بزمام الأمور في ليبيا ما بعد القذافي. لكن فرنسا «الساركوزية» وبريطانيا «الكاميرونية» أدارتا ظهريهما سريعاً للفوضى الليبية. ووصل غضب أوباما إلى حد وصف كاميرون بـ«الشارد الذهن»، وساركوزي بـ«المحب للظهور الإعلامي».
إعادة لملمة الوضع الليبي تفيد في منع انتقال الفوضى إلى أفريقيا. الخطر يحدق بالساحل الأوروبي، فأمواج البحر تحمل يومياً من شواطئ ليبيا آلاف اللاجئين الأفارقة إلى أوروبا، ومن المؤكد أن من بينهم متطرفين يبحثون عن الانتقام من «الصليبيين».
تتحرك أوروبا نحو ليبيا مجدداً بضغط أميركي. الغرب يحترف لعبة السياسة، وهو يشغّل ماكيناته الإعلامية، لتتحول ليبيا ودواعشها إلى الشغل الشاغل، يومياً، في تصريحات المسؤولين وتحقيقات الصحافيين. تتكثف زيارات السياسيين لليبيا، ويُنتجون، برعاية الأمم المتحدة، اتفاقاً سياسياً لمرحلة انتقالية، تحت مسمى اتفاق الصخيرات، باكورته خلطة من مجلس رئاسي وحكومة برئاسة فايز السراج.
يهلل العالم لهذا الاتفاق، ويجري تصوير الحكومة الجديدة على أنها «المخلّص» لليبيا. تصطدم هذه الحكومة بخليفة حفتر وفريق الشرق الليبي عموماً. ليس حفتر المهم الآن برأي الغرب. الإخوان المسلمون هم أساس في هذه اللعبة السياسية. يرى الغرب أنه لا بد من ضمّ الجماعات الإسلامية «المعتدلة» إلى السلطة، على الأقل مرحلياً، من أجل فرز الميليشيات الليبية المتطرفة.
تدرك أوروبا والولايات المتحدة جيداً أن الإخوان المسلمين في ليبيا هم الطرف الأقوى سياسياً وعسكرياً؛ والأُول هم أكثر من يفهم أصحاب العقول المتطرفة، وبالتالي لا بد من تجيير قوة «الإخوان» في مواجهة الإرهاب. يتردد الإخوان المسلمون بداية في الدخول في حكومة السراج، قبل أن ينصاعوا تحت الضغط والتهديد الأميركي ــ الأوروبي، ونصيحة دول الجوار، وتحديداً تونس، لتتسلم حكومة السراج تدريجاً مقاليد السلطة في مناطق الغرب الليبي.
إنهاء داعش في سرت هو الاختبار الحقيقي للسراج والغرب، في بداية المشروع السياسي في ليبيا. ليس لدى السراج ميليشيا يُرتكز عليها، وهو ما زال يجهد حتى الآن لشكيل حرس رئاسي. ليس أمامه سوى قوات مصراتة: هو يريدها عسكرياً، وهي تريده غطاءً سياسياً... عرف الغرب كيف يبني هذه الشراكة. تنطلق معركة سرت. مصادر خاصة تؤكد لـ«الأخبار» وجود غرفة عمليات عسكرية بريطانية في مدينة مصراتة، تدير هذه المعركة، سواء عبر توجيه الطائرات أو العسكر على الأرض.
يعود الغرب إلى ليبيا مجدداً. هو من دمّر البلاد وخلق الميليشيات ونشر الفوضى، وأنتجت سياسته الجماعات المتطرفة. لكن الغرب يبدو الآن حمامة سلام تبحث عن الاستقرار في ليبيا، ويدعم مساعي إنهاء الفوضى والتطرف. فصول سيناريو إعادة تركيب السلطة في ليبيا انطلقت، لكن ما زالت الكثير من العراقيل السياسية والقبلية تنتظر الغرب في مشواره الليبي. وبالتأكيد، ما بعد القضاء على داعش في سرت لن يكون كما قبله.