لفهم طبيعة الصراع في اليمن علينا أن نعرف أولا ان اليمن هو بلد الفوارق الطبقية الاجتماعية، حيث يظهر التمايز الطبقي بصورة واضحة، بين مراتب اجتماعية من الصعب تجاوزها، فتعتلي السلم الطبقي فئة السادة أو «الهاشميون»، ثم يأتي القضاة أو رجال الدين، يليهم شيوخ القبائل، بعدها يأتي اصحاب الحرف والتجار؛ فوارق طبقية، معترف بها ولا يمكن تجاوزها.
اليمن بعد الثورة، حاول التخلص من هذا الشكل التقليدي الذي صبغ وجه الحياة السياسية، ولم ينج اليمن المعاصر من هذا التمايز، الذي امتد كشرخ سياسي ـ اجتماعي في الحياة اليمنية، بشكل صراعات شخصية بين المتصارعين على السلطة.
لهذا نشبت الحروب الأهلية، والعراك المسلح القبلي، في صعده بين هاشميين وشيوخ قبائل، وهو صراع يمتد الى أكثر من 150 سنة من عمر الصراع القبلي ــ الاجتماعي في اليمن، حيث يرى طرف أحقيّته في السلطة، وحكم اليمن. بالتالي فهو ليس صراعا آيديولوجيا أو مذهبيا.
ويمكن أن نبدأ بشرح هذا الوضع المعقد من آخر الحروب في دماج.
ليلة لم ينم فيها جمال بن عمر
الليلة التي أعلن فيها مبعوث الأمم المتحدة الى اليمن، جمال بن عمر، وقف الحرب في دماج، في عمق بلد قبلي مسلح، الذي تلاه استئناف الحرب نشاطها العلني، هي ليلة تعلن بجرأة فشل مهمة رجل الامم المتحدة في اليمن، وخاصة في مجتمع ينقسم أفقيّاً بين طبقات اجتماعية متناحرة، وعمودياً، بين صراعات سياسية وآيديولوجية معقدة.
في الحقيقة، لا أحد في اليمن يمكنه أن يضمن توقف سلسلة حروب دماج، التي تعد التطور الطبيعي لسلسلة حروب صعده، المتواصلة منذ سبع سنوات.
ست حروب متقطعة، متوسطة الطول، حصدت أرواح آلاف اليمنيين. فالحرب الثانية التي استمرت أقل من شهر من آذار إلى نيسان 2005 قتلت 1500 يمني.
سلسلة الحروب في اليمن، هي المبرر الرسمي للقتل. هذه الحروب ليست حرباً خارجية زُجَّ اليمنيون في نارها، بل هي حرب تتغذى من الداخل، وكل عواملها متوافرة في البيئة المحلية، ولا يوفر الخارج جهده في استغلالها لمصالحه الكبرى.
وإن كان المتداول أن هناك حروباً بالوكالة تُدار في اليمن بين قوى اقليمية، فإننا مع انتهاء كل حرب نكتشف انها لم تكن الاّ حروبنا اليمنية الأصيلة، وينحصر الدور الخارجي باستغلالها سياسياً، لتظهر أنها إحدى أدواته المؤثرة في بلد مُهمَل سياسياً، لكنه أهمية استراتيجية بسبب موقعه الجغرافي.
هذا العمق الاستراتيجي للخارطة اليمنية يستنزف الصراع الاقليمي في اليمن سياسياً ومالياً، ويجرّ الأطراف الإقليمية الى حلبة الصراع اليمني؛ فلا السعودية سيهمّها تفخيخ اليمن طائفياً، كما لا يهمّها استقراره. ولا إيران سيفيدها اتّهام حلفائها بتهم طائفية.
فبالنسبة إلى السعودية التفجير الطائفي يعني تسريب أنبوب الفتنة الى الداخل السعودي، الذي يمكن ان ينفجر هناك بسهوله. فالسعودية يهمّها هدوء الجبهة اليمنية، كما يعنيها هدوء الجبهة البحرينية. كلتا الجبهتين على ذات الأهمية. هذا لا يعني أنها تحلم بان ترى اليمن سعيداً مستقراً.
وهذا ما يدعو الى استمرار مرحلة اللاسلم واللاحرب، وهي مرحلة مزمنة تكلّف الميزانية السعودية الكثير. وهناك تكلفة من نوع آخر تدفعها صديقة كبرى أخرى، على الضفة الأخرى «إيران» التي لن يسرّها أن ترى حلفاء وشركاء الداخل يُحرَقون في نار الطائفية، لأنك إن أردت القضاء على ايران والحوثيين وكل من سار على طريقهم فتحدّث بلغة مذهبية.
كل هذه الحقائق يمر عليها رجل واحد وعينه على اسمه يذيله بـ «منقذ اليمن الأوحد»؛ فجمال بن عمر، يحاول ان يلعب لعبة القدر، ليظهر «الخارج» المسيطر على أمور «الداخل»، حيث فقد أهلها السيطرة عليها.
إنها حقائق تنفي تجربة الحوار في اليمن، فجلسات الحوار الوطني لا يمكنها أن تلغي حرباً كانت مؤجلة. فالخلاف الحاصل في اليمن أعمق بكثير، مما يعتقده بن عمر، ولن ينتهي بمجرد جلوس ممثلين عن التيارات السياسية في قاعة فندق فخم. لأنه ليس خلافاً سياسياً جاء مع الحراك والثورة الشعبية قبل 3 اعوام، بل هو صراع اجتماعي طبقي، يمتد عقوداً طويلة جداً، تجذّر في التركيبة اليمنية للبيئة السياسية.
اضف الى ذلك ان مؤتمر الحوار الوطني الذي بدأ جلساته في 18 آذار من هذا العام، كان يفتتح مرحلة انتقالية يمر بها اليمن، بعد مراسم نقل السلطة من علي عبد الله صالح، الى نائبه عبد ربه منصور هادي، الذي فاز بالتزكية في انتخابات أُجريت في شباط 2012 نتيجة الثورة الشعبية.
وفي المرحلة الانتقالية، عليك عادة ان تسمح باعادة التموضع، لكن إعادة التموضع في بلد مسلّح لا تعني شيئاً سوى الحرب.
لذا فان فكرة الحوار الوطني لم تكن بديلاً عن الحرب، بل كانت غطاء ًسياسياً لها، وحين تُفجّر الحرب في اليمن، فانها تكون مدروسة بالشكل الذي يمكنها أن تخضع معه للسيطرة، بمعنى انها تلتزم بجغرافية محددة وبخارطة وخطة معينة.
فحروب صعده الست لم تخرج من اطارها المرسوم، ولا يمكن ان تسمع عن جبهات للقتال تفتح خارج مناطق النفوذ والسيطرة، وكذلك حين دشنت الحرب على القاعدة في أبين الجنوبية العام الماضي.
اليمن له خبرة قتالية طويلة، وثقافة السلاح إحدى خصوصيات هذا البلد، في هذه الحالة اليمن ليست ليبيا، حيث يمكن أن تفلت زمام الأمور في الشارع، ويخرج كل شيء عن السيطرة.
وهي ليست سوريا حيث تُشن حرب هوجاء لا تعرف فيها من يصارع من. الحرب في اليمن لها قواعد وقوانين، وهذا أمر لا يعني إيجابية العمل المسلح في اليمن، بل يعني انه سلوك يومي لا حالة طارئة.