سيناء | يقع دير سانت كاترين، أحد أقدم الآثار المسيحية في العالم، فوق أعلى قمة جبلية في مصر في جنوب سيناء، ويتبعه دير الراهبات في وادي فاران المؤدي إلى قمة الجبل. وكلا الديرين في حماية تاريخية من القبيلتين المحيطتين؛ فدير الرهبان في حماية قبيلة الجبالية، و«دير البنات»، كما يطلق عليه محلياً، في حماية قبيلة القرارشة. والكنائس الجديدة نسبياً، التي تم بناؤها في مدينتي طور سيناء وشرم الشيخ، لم يتعرض أي منها للتهديد، في ظل غياب الجماعات المتشددة من جنوب سيناء. غير أن الأوضاع في شمال سيناء مختلفة فكرياً وسياسياً وأمنياً. ورغم شهرة سيناء، شمالاً وجنوباً، بالتسامح الطائفي، إلا أن صعود جماعات المصالح المتدثرة برداء التشدد الديني في المنطقة الحدودية من شمال سيناء قد نحا بالصراع الطائفي منحىً خطيراً غير مسبوق. وقد انفجرت الأزمة في أيلول من العام الماضي، حيث وقع اعتداء مسلح على محل تجاري مملوك لأحد الأقباط في مدينة رفح الحدودية، أُغلقت على إثره كنيسة رفح، وتم تهجير ست أسر قبطية من المدينة.
وبحسب منظمات حقوقية مصرية، فإن العام الجاري شهد تصاعداً في الاعتداءات التي تستهدف أقباطاً في شمال سيناء، وضمت الحوادث خطفاً في مقابل فدية وقتلاً بالرصاص وذبحاً بنصل سلاح أبيض. في السادس من تموز الجاري، قُتل القس مينا عبود شاروبين في حي المساعيد غرب مدينة العريش. وقد عاينت «الأخبار» آثار دمائه على الأسفلت وبقايا حطام زجاج سيارته إثر إطلاق النار عليه من قبل الجناة. وبحسب شهود عيان، فإنّ ملثمين أطلقوا النار على القس في زيّه الكهنوتي بعد رفضه الوقوف لهم بسيارته، ثم سحبوه إلى خارجها وأعادوا إطلاق النار مجهزين عليه، لينطلق أحدهم بسيارته في طريق غير مسلوك كثيراً، حيث وجدت السيارة مغروزة في الرمال.
ورغم وجود الشبهة الجنائية في مقتل القس ومحاولة سرقة سيارته، غير أن زوجته نفت ما تردد عن سرقة مبلغ مالي كبير يتناقل الأهالي أنه كان بحوزته وقت الجريمة. وبرأي صحافيين محليين ونشطاء سيناويين، فإن مجموعة الاغتيالات التي تستخدم الألعاب النارية للتمويه والتغطية على صوت إطلاق النار، كما شهد بذلك جيران الحادثة، لا يستبعد أن تتظاهر بمحاولة سرقة السيارة لإخفاء الدافع الطائفي وراء الجريمة، خاصة أن استهدافه قد تم أثناء ارتدائه زيّه الكنسي.
ولم يكد يمر أسبوع على هذه الحادثة حتى فجع المجتمع القبطي في شمال سيناء بخبر مروع صبيحة الحادي عشر من تموز يفيد بذبح التاجر القبطي مجدي لمعي، والعثور على جسده مفصول الرأس في منطقة المقابر شرق مدينة الشيخ زويد. كان لمعي (63 عاماً) قد اختطف أثناء توجهه إلى منزله في قلب مدينة الشيخ زويد في الخامس من تموز الجاري. وكشفت مصادر كنسية لـ«الأخبار» عن وجود مساومات من قبل من ادّعوا أنهم وسطاء بين الخاطفين والكنيسة للحصول على فدية مالية تم تقليصها بعد التفاوض إلى 250 ألف جنيه (حوالى 35 ألف دولار أميركي).
ورغم وضوح الشق الجنائي في القضية، لا يستبعد سكان محليون أيضاً البعد الطائفي في الجريمة؛ فالمواطن المذبوح مجدي لمعي معروف ومحبوب في مدينة الشيخ زويد. ويتردّد أنه تاجر الأجهزة الكهربائية الوحيد الذي يبيع بالأقساط المؤجلة تخفيفاً عن كاهل البسطاء، ويحبه السكان المحليون لأصله الفلسطيني، وإن كان مقيماً في سيناء منذ عام 1967، ويحمل الجنسية المصرية هو وعائلته. وهو في الوقت نفسه معروف بنشاطه الديني، حيث ينسب إليه الفضل في السعي وراء بناء كنيسة رفح (المغلقة حالياً بعد حادث تهجير الأسر القبطية في أيلول من العام الماضي)، وكان يتردد بين السكان أنه يسعى لبناء كنيسة أخرى في مدينة الشيخ زويد، وذلك وفقاً لما أدلى به نشطاء محليون في المدينة.
لم تكن حادثة اختطاف مجدي لمعي هي الأولى من نوعها التي يتعرض لها تاجر قبطي في شمال سيناء. فصاحب البار الوحيد في مدينة العريش، سامح لطفي عوض الله، 46 سنة، كان قد تعرض للخطف على أيدي ملثمين هاجموا سيارة الأجرة التي كان يستقلها في طريق عودته من المحل إلى المنزل مساء الأول من شباط 2013. ونجح عوض الله في الهرب من العشة التي ألقوه فيها بالقرب من قرية الجورة جنوب مدينة الشيخ زويد (35 كيلومتراً جنوب شرق العريش)، بعدما سلكوا به طريقاً خلفياً مستخدمين سيارتهم ذات الدفع الرباعي. وكادت محاولة هربه تبوء بالفشل لولا لجوئه إلى أحد القادة المحليين، يدعى الشيخ أحمد أبو داود، الذي رفض تسليمه لخاطفيه، ووفّر له الحماية حتى عاد إلى منزله. وبعد فترة نقاهة، حيث تعافى من الجروح والكدمات التي تلقاها أثناء مقاومته للخطف، عاد عوض الله من بلدته الأم في محافظة الشرقية في دلتا وادي النيل إلى العريش ليتعرض محله التجاري لإطلاق نار على أيدي مجهولين عشية عيد القيامة في الخامس من أيار الماضي. وقد نجا عوض الله من حادث إطلاق النار، في حين فقد أحد العاملين المسلمين في المحل حياته، لتنتهي بذلك إقامة عوض الله في العريش عائداً في هجرة عكسية إلى محافظة الشرقية حيث أتى قبل خمس عشرة سنة. وقد تحدث لـ«الأخبار» عن عدة حوادث أخرى شبيهة استهدفت سيارات بعض أقباط سيناء بإطلاق النار، كما ذكر واقعة اختطاف لتاجر قبطي آخر في العريش مقابل فدية، لكن لم يتسنّ لـ«الأخبار» التحقق منها.



تضييق وتهديد ونزعة للرحيل

يختلف أهل سيناء في تفسير الحوادث وتحديد الدوافع وراء الانتهاكات التي يتعرض لها الأقباط، لكن المتفق عليه هو حالة القلق والذعر المسيطرة على أغلب أقباط شمال سيناء؛ فكنيسة رفح مغلقة منذ ما يقرب من عام، وكنائس العريش الثلاث لا تقيم سوى قداس واحد صباح يوم الجمعة يتم اختصاره والتبكير بموعد انتهائه والانصراف منه خشية حدوث أي احتكاك مع المتوجهين إلى صلاة الجمعة. وفي الوقت الذي نزحت فيه بعض الأسر القبطية من رفح إلى العريش، فإن أقباط العريش يتطلعون إلى الرحيل من سيناء والهجرة العسكية إلى وادي النيل، أو حتى السفر خارج البلاد. كذلك تسعى بعض الأسر القبطية لاقتناص أي فرصة عمل خارجية لأبنائها، بغض النظر عن العطاءات المالية أو الوضع الوظيفي. وبرأي سكان محليين في كل من مدينتي الشيخ زويد والعريش، فإن البعد الطائفي مرتبط بالبعد القبلي. فأقباط شمال سيناء ليسوا من عائلات أو قبائل سيناوية تحميهم وتذود عنهم، كذلك يفتقدون الظهير الإيديولوجي البديل من الانتماء القبلي، وهو ما يتاح لنظرائهم من الوافدين المسلمين من وادي النيل الذين قد يحتمون بالجماعات الدينية المختلفة. وقد استدلوا على ذلك بحوادث الاختطاف الجنائي التي وقعت لأبناء عائلات ثرية من مدينة العريش حيث عاد المخطوفون بسلام بغض النظر عن دفع الفدية من عدمه.