معصوبَ العينين، مقيَّد اليدين، مكرَهاً على الوقوف في ترقُّب للكمات من كلّ جانب، بعد أن تمّ اقتياده تعسّفياً وبلا مذكّرة اعتقال إلى مبنى مجهول، يُخاطبه ضابط التحقيق بالقول: هذه قائمة بوسائلنا في إجبارك على الاعتراف، اخترْ منها ما يناسبك (الفلقة، الصعق الكهربائي، التحرّش الجنسي، اقتلاع الأظافر.. إلخ). هذا ليس بمشهد مأخوذ من فيلم سينمائي، بل هو حقيقةُ ما مرَّ به بالفعل بعض السجناء السياسيين في البحرين، حيث يخضع الضحية للترهيب النفسي، إلى جانب التعذيب الجسدي، من أجل إرغامه على الإقرار بـ«ذنوبه». منذ عام 2011 ولغاية عام 2023، رُصدت 20230 حالة اعتقال تعسّفي توزّعت بين رجال ونساء وأطفال، منهم مَن خرج سريعاً من السجن باتّجاه القبر كالناشر الصحافي عبد الكريم فخرواي (49 سنة) الذي تعرّض لتعذيب شديد، أو بعد ستّ سنوات من القتل البطيء بالإهمال الطبّي مِثل محمد سهوان (45 سنة)، الذي لم تمنع إصابته بأكثر من 50 شظيّة «شوزن» برأسه في الجهة اليمنى، ضرْبه بشراسة من الجهة اليسرى.هكذا، طوَّر مجتمع الجناة من العناصر والقيادات الأمنية بيئة التعذيب في مراكز الاحتجاز، إلى الدرجة التي يكاد لا يخلو معها عامٌ من توثيق حالات متجدّدة لسوء المعاملة. ففي عام 2022، أُجبر المعتقَل الشيخ عبد الجليل المقداد (63 سنة) على النقل القسري إلى المستشفى لمرّتَين، محشوراً في صندوق سيّارة الشرطة في درجة حرارة مرتفعة جدّاً، ومُعرَّضاً لضيق التنفّس، ولكن ليس من أجل تلقّي العلاج الذي هو في حاجة ماسّة إليه لِمَا يعانيه من أمراض. ويُعدّ الحرمان من العلاج أحد وسائل التعذيب «المُفضَّلة»، وهو يتنوّع ما بين إلغاء موعد عملية جراحية أو إلغاء موعد السجين للذهاب إلى المستشفى أو حرمانه من الأدوية أو عدم انتظام العلاج، وصولاً إلى اضطرار المعتقَل للبحث عن وسيلة ما ليحظى بحق المتابعة الطبّية، وهو ما حدث لمحسن بداو الذي اضطرّ بعد أن صبر لسنة ونصف سنة، وهو يعاني من ألم حادّ في الأذن الوسطى من دون أن يُسمح بعرضه على طبيب مختصّ لا في عيادة السجن ولا في خارجها، لأن ينشر مقطعاً صوتياً يشرح فيه حالته، على رغم ما قد يتعرّض له من جرّاء ذلك من عقوبات. أيضاً، يُحرَم المعتقَلون من المشاركة في إلقاء النظرة الأخيرة على جثامين فقدائهم أو في تشييعهم، حتى لو كان المتوفّى مثلاً هو والد السجين. وقد اضطرّت كلّ هذه الوقائع أكثر من 600 سجين، في منتصف الشهر الماضي، إلى رفْع خطاب يطالبون فيه بتحسين ظروف السجن، بما يشمل السماح لهم بأداء صلاة الجماعة.
طوَّر مجتمع الجناة من العناصر والقيادات الأمنية بيئة التعذيب في مراكز الاحتجاز


على أن القسوة مع الضحايا تحوّلت إلى ركن أساسي في العقيدة الأمنية في البحرين، للتحصُّل على الأمان الوظيفي وضمان نيْل الترقيات الأمنية. وفي هذا الإطار، يقول أحد المحتجَزين في المبنى 15 في «سجن جَو» المركزي، إن أحد العناصر الأمنية قال له في فترة تدريبه في الأكاديمية الملكية للشرطة: «أنا مضطرّ للتعامل معكم هكذا، لأننا لن نحظى بفرصة الترقية من دون أن نكون قُساة». كذلك، قد يتحوّل المعتقَل إلى عُقدة لدى العنصر الأمني، فيمارس الأخير بحقّه أبشع وسائل التعذيب لاشهر ممتدّة لأسباب ذاتية، كما حدث للسجين السياسي أكبر علي - اعتُقل عام 2012 وعمره 17 سنة - الذي تحوّلت فترة احتجازه، وهو المحكوم بالسجن 64 سنة، إلى عذابات لا تنتهي، بعدما تَسبّب الضابط محمد عيسى رشدان بعدم أخْذ أيّ موعد طبّي له لثمانية أشهر في مستشفى الطبّ النفسي، على رغم أن الضابط المذكور نفسه هو المسؤول عن تدهوُر حالته النفسية.
إذاً، تحت رعاية «مجلس الدفاع الأعلى»، الذي يرسم - حصراً - السياسات الأمنية، والمكوَّن من أفراد العائلة الحاكمة أو العوائل الموالية للسلطة، يتيح وزير الداخلية البحريني، راشد آل خليفة، للمجتمع الأمني الفرصة لابتداع وسائل القمع الجديدة طمعاً في المكافأة أو تنفيساً للعُقد النفسية. كيف لا والحكومة تَعتبر النجاح في مهمّة التعذيب سبباً للتعيينات الديبلوماسية الرفيعة، كما هو الحال في تعيين نجل وزير الداخلية سفيراً في واشنطن مكافأة لوالده على سيرة الترهيب بلا هوادة طوال 12 سنة؟

*رئيس «منتدى البحرين
لحقوق الإنسان»