يكاد الأمر لا يصدق. مع أن الرسالة التي وصلت إلى «الأخبار» كانت واضحة: قبل عيد شهداء الجيش بشهر واحد توقفت رواتب بعض عائلات الشهداء «فجأة وبدون سابق إنذار، من جانب معالي وزيرة المالية الموقّرة التي لم تجد ما تسدّ به عجز الدولة إلا رواتب الأرامل والأيتام»، كما جاء في رسالة موقعة باسم أسر شهداء الجيش
ضحى شمس
إنها أعجوبة لبنانية حقيقية. كيف من الممكن أن تزداد «جهلاً» بمسألة كلما ازددت غوصاً فيها؟ هذا هو الانطباع الذي خرجنا به من تحقيق في شكوى لبعض أسر شهداء الجيش، قطع عنها راتب معيلها الشهيد، منذ 3 أشهر لأسباب غامضة، ازدادت غموضاً بعد استيضاح وزارة المالية، من جانبهم، ومن جانبنا. ولأنها «المالية» في دولة لبنان العلية، فقد بدا الجواب «الواضح» متّسقاً مع أسلوب اشتهرت به المدرسة التي تعاقب تلامذتها على الوزارة منذ سنوات: نفي رسمي للمشكلة، وتأكيد ميداني لها. إلا إذا كانت «المالية» فلتانة، وهناك من «يجتهد» لتفسير القوانين دون العودة الى الوزيرة، أو بغرض تشويه صورتها العامة!
هكذا، وفي ما بدا أنه السياق الأيديولوجي نفسه لحرمان المتقاعدين من المفعول الرجعي لزيادة الأجور، ارتأت المالية أن تحرم بعض أسر شهداء الجيش، ممن لا يزال أولادها في الجامعة، من راتب الشهيد بحجة... العطلة الصيفية، كما أبلغ الموظفون الأسر! كيف يعطّل الراتب في العطلة الصيفية؟ لا أحد يعرف، لا بل تبين أن الراتب لن يداوم في حسابات مستحقيه، التزاماً بباقي العطل المدرسية، حسب ما قال موظفون في المالية للأهالي حين راجعوهم! بناءً لأي نص؟ لأي اجتهاد؟ لم تفهم الأسر التي لم تقبض فلساً منذ أوائل تموز الماضي، برغم المراجعات كلها. 3 أشهر من دون «معيل» وضعت هؤلاء على حافة الحاجة. لم يعد الأمر يحتمل. خرقت الأسر قانون الصمت بكتاب موجه إلى وزيرة المالية، ريا الحسن.
وفي تفاصيل الكتاب، أنه بعدما «استنتجت» الأسر أن الرواتب توقفت «هرعنا جميعاً لنستوضح ما حصل (لدى المالية)، فصدمتنا قرارات جديدة وطلبات بتقديم أوراق جديدة بتواريخ جديدة (تفيد بتسجيل أبناء الشهداء في الجامعة من أجل احتساب التعويض العائلي لهم). وكلما أنجزنا ورقة وقدمناها، طلبوا المزيد. وحتى اليوم لا نزال بلا رواتب، والأعياد لن تغير مواعيدها حسب ظروفنا المعيشية». أضافت الرسالة: «هذا هو الشهر الثاني (آب) بلا راتب ولا معيل ولا نهاية للأوراق المطلوبة، فالقرار الصادر (الذي تبلغوا به شفهياً من موظفي المالية) يوجب صرف الراتب خلال فترة الدراسة الجامعية فقط (لابن الشهيد تحت 25 سنة)، على أن يتوقف الراتب خلال العطل السنوية. أي يجب أن نتوقف عن الحياة في فصل الصيف، إضافة إلى العطل السنوية وما أكثرها». وتؤكد الرسالة أن المشكل هو مع وزارة المالية «علماً بأن مؤسسة الجيش لم تقصّر يوماً مع أسر شهدائها لا مادياً ولا معنوياً». وتوجهت الرسالة إلى وزيرة المال: «لا نطلب مساواتنا بمن ما زالوا في الخدمة الفعلية ممّن تزاول زوجاتهم عملاً مأجوراً ويتقاضون رواتبهم غير منقوصة ويحصلون عند نهاية الخدمة على تعويض وراتب تقاعدي شهري محتفظين بباقي التقديمات ويستطيعون العمل بصفة مدنية خارج المؤسسة الكريمة». وتسأل الرسالة الوزيرة: «لم تختاري إلا رواتب الشهداء لتنفيذ هذه القرارات ضامنة بذلك عدم الاعتراض؟ ومتى كان الأموات يتكلمون ليعترضوا؟ ولكنك نسيت أن أي أم في الدنيا مهما كانت ضعيفة تصبح كاللبؤة عند التعرض لأولادها فكيف بالتعرض لقوتهم اليومي؟ شهداؤنا في قبورهم غاضبون، يتساءلون هل ارتكبوا باستشهادهم جريمة بحق أسرهم؟ هل أصبحت الشهادة ذلاًّ وحاجة؟ يحاولون زلزلة الأرض ليخرجوا من قبورهم ويقفوا في وجه كل قرار جائر يتخذ بحق أسرهم. (التوقيع) أسر شهداء في الجيش اللبناني».
أبلغ موظفو المالية الأسر بأن الراتب سيتوقف خلال العطل
يقول العميد المتقاعد النائب الوليد سكرية إنه عندما يستشهد العسكري، يرفّع رتبة، فيتقاضى أهله راتباً بناءً على الرتبة التي رفع إليها. وبعد حساب مكتب التقاعد في قيادة الجيش لرتبته ومستحقاته يحوّل ملفه، تماماً كالمتقاعدين، إلى وزارة المالية، ذلك أن حساب موازنة الجيش يتم وفقاً للعسكريين الفعليين في الخدمة. وبعد تدقيق المالية في الحساب المحوّل إليها من قيادة الجيش يصدرون ورقة اسمها إفادة راتب، يحدد الراتب الأساسي والضمان الخ... ويعطونه رقماً في المالية ليراجع، ثم توطن المالية المعاش في البنك ويصبح تحويله تلقائياً إلى البنك. عندما يحصل أي حسم أو زيادة على الرواتب، تحسبها المالية ثم تحوّل الراتب. وتصفية راتب الشهيد تختلف عن المتقاعد، ذلك أن الأول يأخذ كامل راتبه وفق الرتبة التي رُقي إليها، إضافة الى كلفة تعليم الأولاد».
إذاً، كامل الراتب للشهيد «إضافة» إلى كلفة تعليم الأولاد.
يستغرب النائب كثيراً ما نقلناه إليه، يحاول أن يجد تفسيراً معقولاً فيقول إنه قد يكون للأمر علاقة بالأقساط الدراسية ونظام الفصول. لكن أسرة أحد الشهداء الموقِّعة على الرسالة أكدت أن الأقساط لا علاقة لها بالمالية، فهي «تستوفى من وزارة الدفاع ولا علاقة للراتب الذي نتقاضاه من المالية بأي شيء له علاقة بالأقساط».
«الهيئة في قرارات جديدة. قال لنا موظف في مكتب التقاعد بالمالية عندما اتصلنا به لنستفسر»، تجيبنا أرملة أحد الشهداء. ولما سألته كيف يوقف الراتب دون تبليغ الأسرة مسبقاً، أجابها الموظف: «قلنا لهم، ولكن الوزيرة قالت: اقطعوا الرواتب حينها ستأتي الأسر لتسأل وتراجع فتشرحون لهم». أسرة في منطقة أخرى بلبنان حكت لنا ما حصل معها: «رحنا نقبض الراتب ما كان في شي بالحساب. يه! قلنا ربما تأخر التحويل عن آخر الشهر، لكن لا شيء... نزلنا للمراجعة قالوا لنا إن المالية أوقفت المعاش. راجعنا المالية هاتفياً، قال لنا الموظف: ربع ساعة وأرد عليكم. ثم أعطيته الرقم المالي فاتصل وقال: من يقبض المعاش؟ قلت له ابني الأصغر. سألني: هل يتعلم؟ فأجبته بالإيجاب فطلب أن يأتيهم بأوراق تثبت ذلك، قدمنا الأوراق وحتى الآن لا شيء». ثم؟ «روحي وتعي على بيروت وبنزين ع الطرقات مش بس ما في معاش. اكتشفنا انه مش بس ما في معاش، لازم الصبي يسجل بفصل الصيف (سامر وان سامر تو) لأنو إذا عطّل ما في معاش! ولكن ما علاقة العطلة بالمعاش؟ المهم، لجابولنا الورقة لصدقناها لبعتناها كان «سامر وان» خلص. رجع الصبي سجل «سامر تو»، ولكن، لتكمل معنا، تقاضت الجامعة القسط ثم ألغت الصف لعدم كفاية العدد لفتح صف، وبالتالي المصاري ستذهب للفصل الذي بعده». ماذا يعني؟ «يعني أننا أصبحنا من دون راتب، كما أننا أنفقنا بعض المدخرات على القسط. فمن أين نعيش؟ من الهواء؟».
وبعد؟ «رجعنا اتصلنا بالمالية قلت لهم ما الذي علينا فعله حتى ما يروح المعاش؟ فقالوا لي: اصلا القرار انه مع حلول كل عطلة يتوقف المعاش، وبين كل فصلين دراسيين ايضاً». إذاً؟ أين الحقيقة في ما يحصل؟ وهل هناك من يماطل في احتساب التعويض العائلي داخل الراتب ما يؤدي لتأخير صرف هذا الأخير توخياً «للفوائد المصرفية المترتبة على إجمالي المبلغ لعدة شهور»؟ لا جواب. كما يصح السؤال عن مدى صحة ما نقله الموظفون في المالية عن هذا القرار «الشفوي»؟ ومن هو المرجع الصالح لفهم موضع الخلل في المسألة؟ كل ما نعرفه أن الوزارة تنفي، والأسر سائرة بخطى حثيثة إلى شهر رابع من دون راتب، أما العيد؟ فلا يبدو أنه يحمل لهؤلاء أية «هدايا»، حتى لو كانت، كما هو الراتب، من صلب حقوقهم وعلى حسابهم.


رد وزارة المالية

رد أمس مستشار وزيرة المالية، نبيل يموت، على أسئلة «الأخبار»، فنفى أن يكون هناك أي قرار بتعطيل رواتب الشهداء في العطل الصيفية، وقال: «اللي بيطلعلن تعويض عن تعليم أولادهم فوق 25 بالصيف، لازم يجيبوا اوراق تفيد بذلك من اجل احتساب التعويض العائلي الذي يدخل في المعاش». نسأل: لكن الأسر قامت بذلك لكنها لم تتقاض معاشاتها منذ 3 اشهر! يجيب: «ما في توقيف معاشات، هناك فقط التعويض العائلي للأولاد، الاولاد تحت 18 بيبقى تعويضهم ماشي، ومن هو بين 18 و25 بحاجة إلى إفادة انه يتعلم، عندما يأتينا بها نعطيه الشهور المتأخرة، بسبب تأخرهم بتقديم الأوراق». نحمل الرد إلى الأسر فتعلق إحدى السيدات: «غير صحيح. أبلغنا موظفو المالية بأن المعاش سيتوقف في كل العطل المدرسية، حتى بين فصل وفصل. ثم ان احتساب التعويض العائلي لا يسبب تأخير راتب لثلاثة أشهر! فمن أين ستعيش العائلة ما دامت الأرملة لا تعمل. اليوم (أمس) بالذات ذهبت لأتفقد معاش أيلول، فلم أجد شيئاً. اتصلت بالعائلات الأخرى، نفس الشي. دخلت إلى البنك وسألتهم فأكدوا ان معاشات المتقاعدين وصلت الا معاشاتنا نحن. فمن الذي يقول الحق؟».