ناهض حتر *
من بين كل منظمات الإسلام السياسي، أظهر حزب الله أنه الأكثر تقدماً وفعالية. كما لا نظير للأمين العام للحزب، السيد حسن نصر الله، في أوساط الإسلام السياسي وتاريخه كله: قائد وطني كبير حقاً، وواسع الأفق، وصاحب قضية عيانية هي مقاومة إسرائيل، ومقاتل شجاع، ويتّسم بلا شك بالصدقية والنزاهة. ورغم ذلك كله، بل بسبب ذلك كله وسواه من الفضائل، فإن نصر الله يقدم للباحث البرهان على أن الإسلام السياسي محكوم بالزواج الحتمي مع النيو ليبرالية والمذهبية. وسنتأكد من ذلك من خلال وقفة مع نصّين لنصر الله: تصريحاته بشأن قضية الحاج عز الدين، ورسالته في تأبين عبد العزيز الحكيم. قضية الحاج صلاح عز الدين: معه حق نصر الله. فهناك العديد من المتربصين بحزب الله، بسبب كفاحيته ضد إسرائيل، الذين أفادوا وسيفيدون من قصة إفلاس الحاج صلاح عز الدين. وقد تكون الشائعات، بالفعل، أكبر بكثير من الحقيقة. وقد تنكشف الحقيقة عن أن الحزب غير متورط في القضية التي تخضع لتحقيقين، عدلي وحزبي. على أنّ كل ذلك، على أهميته، يعني القضاء والحزب وجمهوره والمتضررين، ولا يعني الفضاء العام للنقاش الفكري الذي لم يعد بمقدور الحزب تجاهله. وللنقاش، سوف نعتمد نص الدفاع الذي أدلى به نصر الله نفسه (جريدة الأخبار، 8 أيلول 2009). يقول: 1 ــــ «إنّ ما حصل هو مصيبة لحقت بالكثير من العائلات وهي مدعاة للتأثر والحزن»، 2 ــــ «لم يشجع الحزب المواطنين أو المنتسبين إليه على وضع أموالهم في عهدة «الحاج صلاح»، لكن قد يكون للحزب بعض الأموال مع الرجل، لا تتجاوز أربعة ملايين دولار». 3 ــــ «إن هناك من بالغ كثيراً في الأرقام، المبلغ الفعلي الذي أضاعه عز الدين بحدود 400 مليون دولار»، 4 ــــ «إن عدداً محدوداً جداً جداً من مسؤولي حزب الله استثمروا أموالهم مع عز الدين، وأن بينهم من وضع التعويضات التي حصل عليها جراء دمار منازلهم في حرب تموز»... أما المسؤول الذي استثمر بملبغ مليون دولار أميركي فقد وضح أنه «جمع أموالاً من إخوته وأقاربه وأصدقائه ليضعها بعهدة عز الدين».

برقية نصر الله للتعزية بالحكيم تعبّر عن أولوية الولاء المذهبي والصلة المذهبية والمشروع المذهبي

حسناً:1 ــــ إفلاس عز الدين هو إذاً «مصيبة». والمصيبة مصادفة عرَضية، وعند المؤمنين قضاء وقدر. لكن هذه «المصيبة» بالذات حتمية. فالاستثمارات، في حالة عز الدين، ليست أسهماً في شركة مسجلة، ولا تخضع للرقابة والمحاسبة، ولا تضمنها أصول ولا قوانين أو هيكليات مصرفية أو تجارية. ولذلك، فهي غير قانونية أصلاً، وتتضمن، ابتداءً، مغامرة يدركها المستثمر ضمناً، ولكنه يقبل عليها طمعاً بأرباح أكبر لا تتحقق بالمساهمات المقوننة المتعارف عليها. ولتحقيق تلك الأرباح، يلجأ منظمو جمع الأموال، على افتراض صدقيتهم، إلى ألوان من الأعمال غير الشرعية والمضاربات المالية والعقارية، وذلك لكي يضمنوا أرباحاً تفوق معدلات السوق (التي تتراوح بين 5 في المئة في الإنتاج الحقيقي و15 في المئة في العمليات المصرفية المضبوطة).
وفي هذه الحالة، فإن منظمي الاستثمارات ذات الربحية الأعلى مضطرون لتدوير الأموال وتضخيمها مرات عدة في شبكة معقدة من المعاملات والمغامرات، تفوق بالحتم الأصول الحقيقية المعتد بها كضمانات. هنا، يكون الإفلاس نتيجة حتمية للتناقض الحاصل بين حجم الأموال وحجم الأصول. «مصيبة» عز الدين كانت، إذاً، مكتوبة في جذر نشاطه ومآل حتمي لهذا النشاط المستند إلى أسلوب النيو ليبرالية المتوحشة في جني أرباح أكبر مما يولّده الاقتصاد الحقيقي بواسطة الفقاعات المالية والعقارية. وما حدث مع عز الدين هو صيغة متخلفة مما حدث في النظام الرأسمالي العالمي الذي بلغت معاملاته المالية 2000 ترليون دولار، فيما قيمة الاقتصاد العالمي الحقيقي لا تزيد عن 44 ترليون دولار، فكان حتمياً أن تندلع الأزمة المالية للرأسمالية في سلسلة من الإفلاسات.
2 ــــ لا نعتقد أن حزب الله أصدر تعميماً لمنتسبيه وجمهوره باستثمار أموالهم لدى الحاج عز الدين. لكن الحزب شجعهم على ذلك، أولاً، بخلوّ نهجه السياسي والثقافي من أية نزعة نقدية مضادة للرأسمالية، بل حتى للرأسمالية النيو ليبرالية ورؤيتها للعالم وقيمها القائمة على تحقيق الربح السريع الفاحش بأي ثمن، وثانياً، بقيامه هو نفسه باستثمار أربعة ملايين دولار مع الحاج عز الدين، ما يسبغ الشرعية على نشاطه، ويبذر الطمأنينة له بين أعضاء الحزب وأنصاره، وثالثاً، بقيام مسؤولين فيه بالاستثمار لدى الحاج عز الدين، بل إشغال أحدهم، باعترافه شخصياً، بجمع الأموال لمصلحته.
ونتوقف هنا عند المصيبة الفعلية التي انكشفت، جراء سقوط عز الدين، وهي التي تتلخّص في أن قسماً من مسؤولي حزب المقاومة وكادراته وأنصاره وجمهوره، مندرج في ثقافة البزنس النيو ليبرالي في أردأ أشكالها وأكثرها تخلفاً.
وبينما يتوقع المرء من حزب الله أن يُلهم مناصريه قيم الإنتاجية والقناعة والتعالي على الطمع ونبذ الربح السهل وتنزيه الذات عن الأعمال غير القانونية، وتصعيد الروح الإنسانية، نراه متورطاً، بهذا القدر أو ذاك، في إلهام مضاد.
وفي رأيي أن هذا منزلق لا مفر منه للإسلام السياسي، حتى في أحسن صوره السياسية كما هي حال حزب الله، لأنه لم يتوصل بعد إلى امتلاك رؤية اجتماعية تقدمية تنهض على الإنتاجية والتشغيل والتنظيم المدني والنقابي والتوزيع العادل للثروة من خلال الصراع الطبقي، وتظهير مفهوم تنموي معاد للنيو ليبرالية.
إنّ الرؤية الاجتماعية للإسلام السياسي تظل محكومة بمفهوم العمل الخيري. وهذا، عدا كونه بالنسبة لمنظمات الإسلام السياسي وسيلة براغماتية للتحشيد، يمثل، مفهومياً، اعترافاً بشرعية اللامساواة الاجتماعية، ومداواة جزئية لمآسيها، لا استئصالها. وعلى كل حال، فإن شرعية اللامساواة الاجتماعية لدى الإسلام السياسي تنبع أصلاً من شرعية الملكية الخاصة والتجارة والربح عنده.
3 ــــ والأموال التي أضاعها عز الدين، حسب تقديرات نصر الله، لا تقل عن 400 مليون دولار. ولئن كان السيد يستصغر هذا المبلغ (!) فهو بحد ذاته مبلغ ضخم جداً بالنسبة للاقتصاد اللبناني الحقيقي، وخصوصاً أنه ناجم عن تجميع (وتصدير) مدخرات عدد كبير من الأسر، ما يضاعف التأثير الركودي لسحب المبلغ من التداول، سواء في تأسيس مشروعات إنتاجية عائلية أم في شراء السلع والخدمات. إنها ضربة للاقتصاد الوطني جاءت، هذه المرة، لا من حيث هو متوقع، أي من عتاة الرأسماليين المرتبطين بالمشروع الأميركي، بل من طرف قوى تناهض ذلك المشروع بالسلاح، ولكنها تمكّن له ثقافياً وقيمياً.
إن مأساة الأسر التي أضاعت مدخراتها مع الحاج عز الدين، هي مأساة ثقافية وقيمية بالدرجة الأولى. وهي تشير، سياسياً، إلى انتشار هاجس الصعود واللحاق بالطبقات العليا، باعتباره الهاجس المحوري للحياة.
أين ذهبت الـ400 مليون دولار؟ لقد انتقلت من أيدي العديد من الأسر المتوسطة الحال إلى جيوب قلة من الرأسماليين المحليين والأجانب، أولئك الذين خسر الحاج عز الدين أمامهم. بمعنى آخر، فإن الحاج، مدعوماً من حزب الله ومستغلاً ثقافة المال لدى جمهوره، عمل كآلية نهب للمدخرات الاجتماعية لمصلحة كبار الرأسماليين. وهو كان، في التحليل الأخير، واحداً منهم.
ثانياً، تأبين الحكيم: كان أسعد أبو خليل محقّاً في نقده اللاذع لنصر الله بسبب برقيته، المدهشة، في تأبين الزعيم الشيعي العراقي عبد العزيز الحكيم. إنه لمستهجن، بالطبع، ولا يستقيم أن ينعى شيخ المقاومة في لبنان، بقصيدة مديح، شيخ العملاء في العراق، فيصوره مجاهداً قضى حياته في نصرة الشعب العراقي المظلوم وإعزازه!
الحكيم، كما هو معروف، أداة استخبارية إيرانية. وبرز، خصوصاً، في دور الجلاد ضد أبناء شعبه ممن وقعوا في أسر القوات الإيرانية في حرب الخليج الأولى. ولا يهمنا، هنا، السجال بشأن تلك الحرب نفسها، وبشأن ما إذا كانت إيران ظالمة أو مظلومة
فيها.
على كل حال، من الثابت قطعاً أن الحكيم عاد إلى العراق على ظهر الدبابة الأميركية، وأنه شرعن الاحتلال، وتعاون مع المحتلين، وانخرط في الحرب الأهلية.
وقف الحكيم ضد المقاومة العراقية، سنية وشيعية، شريفة أو إرهابية. وكان عموداً من أعمدة حكم مندوب المحتلين بريمر، ومن بناة نظام المحاصصة الطائفية، وأخيراً لا آخراً، من دعاة تقسيم العراق على أسس إثنية ومذهبية، ومشروعه الأساسي كان، ولا يزال بالنسبة لورثته، هو فصل الجنوب العراقي وإنشاء إمارة على أرضه تحت راية مذهبية.
ربما لم تكن برقية العزاء حجة في هذا النقاش لو أنها كانت رسالة بروتوكولية مصوغة بكلمات محايدة. لقلنا عندها إنها واجبات مفروضة بحكم صلات معقدة. لكن برقية نصر الله مكتوبة بكلمات حارة صادرة عن وجدان أسيف لفقدان أخ مجاهد! إنه وجدان يعبر، واعياً أو غير واع، عن أولوية الولاء المذهبي والصلة المذهبية والمشروع المذهبي. ففي هذا الوجدان أن الحكيم جاهد ضد البعثيين لا ضد وطنه، وعذّب وقتل جنوداً وضباطاً وعلماء سنّة أو شيعة مرتدين لا عراقيين. وعمالته لإيران ليست خيانة لوطنه، فلا وطن إلا المذهب. أما عمالته للاحتلال الأميركي فهي ضرورة لـ«إعزاز» طائفته وتأمين حكمها لنفسها بنفسها في إمارة شيعية صافية. وما رافق ذلك من دماء فهو قتال لا قتل، وأما الإثراء غير المشروع... فهو حلال ما دام لنصرة المذهب وزعامته.
هناك العديد من الإسلاميين السنّة الذين يعتبرون إسرائيل أقل خطراً من ــــ بل حليفاً محتملاً ضد ــــ الشيعة. وفي المقابل، الإسلاميون الشيعة في العراق اعتبروا الاحتلال الأميركي، بالفعل، حليفاً ضد السنّة. وحتى حزب الله، وحتى السيد نصر الله، أيّد ضمناً احتلال العراق وتقسيمه استناداً لرؤية مذهبية. وفي ظل هذه الرؤية، لا مبادئ مطلقة في السياسات. فإذا كان القتال ضد إسرائيل يحقق مصالح الطائفة في لبنان، فهي، إذاً، مقاومة، وإذا كان الاحتلال هو الذي يحقق مصالح الطائفة في العراق، يصبح التعاون مع المحتلين جهاداً.
حرّر حزب الله الأرض عام 2000، لكنه لم يحرر الإنسان من الجور الاجتماعي وثقافة المال والعصبية المذهبية، وربح معركة 2006 فعلاً في ميدان القتال، لكنه خسر معارك التحرر الوطني والمساواة والوحدة والتقدم الاجتماعي. وسيخسرها حتماً ليس لعجز في قدراته، بل لأن الإسلام السياسي، في كل صوره ومذاهبه وأحزابه، محكوم في منطقه الداخلي بزواج الأسوأين: النيوليبرالية والمذهبية. قد يكون، في هذا الظرف أو ذاك، خصماً سياسياً لنظام الهيمنة الإمبريالي القائم، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، ولكنه عضو أصيل فيه.
* كاتب وصحافي أردني