منذ سنوات ثلاث، فتحت السياسة لأبناء الضواحي نافذة على وسط بيروت، فطابت لهم السياحة فيها. اليوم، عادت واستعصت عليهم. في موسم السياحة، يمرون باسمها، كما يمرٌ دمشقيٌ بأندلس
أحمد محسن
تلك المباني كانت بشراً في الأساس. لا ريب في ذلك. لا أحد يعلم كيف تحولت إلى حجارة، لكن جاذبيتها الفذة، تودي بالناظر إليها، إلى الاعتقاد أنه خرج من بيروت المدينة، ودخل في الجزء المعنوي ــــ الجديد بفضل العولمة ــــ منها. مصارف ضخمة، ربطات عنق بألوان زاهية، مقاهي الرصيف العالمية، وملابس داخلية. الكثير من الملابس الداخلية في وسط المدينة. تعوم برفق على واجهات المحال التجارية. قطع صغيرة، غير مؤذية على الإطلاق. كأن المدينة نفسها، تتعرى من ذاتها هناك. تخلع لغتها، وموسيقاها، وأهلها، عن جسدها. تتعولم تماماً. تبدل جلدها بين الفصول، لتلائم الحركة التجارية، بعدما سقطت بين فكي الاعتصام السياسي، الذي لم ينتهِ سلمياً. ترك ما تركه، من صور لملثمين، وحكومات صامتة وصامدة. ترك تداعيات في نفوس سكان الوسط التجاري. فجأةً، اكتشف سكان الضواحي، ثقافة المقاهي. قد يكون الأمر مصادفةً لطيفة ــــ إذا كنا حسني النية أكثر من اللزوم ــــ أن يرتفع عدد المقاهي في الضاحية الجنوبية، (التي كان العدد الأكبر من المعتصمين من سكانها). لكن، ورغم هذا الارتفاع الكمي في المقاهي، فإن الأخير لم يمثّل بديلاً ثقافياً طوعياً لأولئك الشبان. تُظهر شهادات معظمهم، أن أسباباً أخرى تحجب عنهم ضوء مدينتهم. ما زال للرحيل من وسط بيروت، في ذاكرة من عاشوا فيها عاماً ونصف عام، حرارة لن تبرد أبداً.
للرحيل من الوسط حرارة لن تبرد أبداً في ذاكرة المعتصمين
يتجول رامي في المدينة مستغرباً. منذ سنة ونصف سنة، كان هنا، يتأبط أكياس النوم، ويدخن بلا حياء. يأتي بالطعام الرخيص إلى خيمته، ويحدق في السماء، قبل النوم، متمنياً أن يتقلص البرد، وألا يستقيل رئيس الحكومة وقتها. لا تختلف الأمور كثيراً من الناحية السياسية، لكن عودة الخيمة باتت مستحيلة، حالياً على الأقل. من شأن ذلك أن «يضرب» الموسم السياحي. يستعيض عن رغبته بعودة الاعتصام ببعض الذكريات القاسية. يشير بإصبعه إلى مبنىً حديث الإنشاء. يهز برأسه، لصديقه، ويضحك. يذكره بأيام الاعتصام الخوالي. كان هناك حمام في المبنى، للعمال، ورامي تبوّل فيه. كان يراهن أصدقاءه حينها، أن هذا المبنى سيصبح ذا شأن تجاري هام. المباني في الوسط التجاري تنمو سريعاً. تصير عملاقةً: «شو بيعطوها كورتيزون؟» يسأل مفتخراً بتحليلاته السابقة. صدقت نبوءة الشاب. يُقال إن المبنى يخص أحد أقرباء رئيس حكومة تصريف الأعمال، وها هو الآن يباهي بأنه تبوّل فيه، قبل أن «يصرفوه» نهائياً من وسط المدينة. مر بالصدفة، وكان يعلم أن العودة في الصيف شبه مستحيلة. دخل رامي محدود. بكلمات أدق، رامي عاطل من العمل، ولا دخل له. لا دخل له بكل هذه المتغيرات أيضاً. المدينة هي المدينة، الظروف هي التي تتغير. يقتنع بالدورة الاقتصادية، على مضض، ويشرع في حديث مع ربيع، صديقه الذي ينتمي إلى «حزب الله». لا يشعر ربيع بأي حنين إلى المنطقة. كانت زيارته خطوة تطبيقية لالتزام حزبي صرف. لا ينفي أن التجربة مفيدة، وأنه يداوم اليوم في مقهى شعبي في الضاحية، على الرصيف. اعتاد على «الداما». بدا لافتاً، أنه لم يتحدث عن أصدقاء جدد، ذهبوا في غياهب الاعتصام. ظل أصدقاؤه هم أنفسهم، لكن، وبدلاً من أرصفة الوسط التجاري، أرصفة الضاحية. الفرق كبير، حتى ولو رفض ربيع ذلك. برأي محمد، الضاحية بتركيبتها الاجتماعية، مكان يشبهه أكثر من قلب العاصمة. يشير إلى وجود مظاهر عديدة، لم يعتد عليها. يجول رجال شرطة كثيرون في بيروت، وعاملات أجنبيات، وأناس يتكلمون اللغتين الإنكليزية والفرنسية، والسياح طبعاً. يستدرك «ثمة دخلاء على ما يبدو». قصد بجملته بعض الشبان اللبنانيين، الذين يسترقون النظر إلى مدينتهم. يشعر بحقدٍ طبقي صريح. لا يحسب ذلك تحريضاً، بل واقعاً لا مفر منه. مجدداً، يستخدم إصبعه هو الآخر. كأن الشبّان هناك، باستخدامهم أصابعهم للدلالة على الأشياء، يريدون التأكيد على أن ما يدلون عليه، ظواهر لم يألفوها قبلاً. يشير محمد إلى عمود إنارة. يطلق جملةً من التوضيحات: الناس هنا لا يعرفون الظلام. يستعملون الشموع في العشاءات الرومنسية. لا يشعرون بالقيظ الذي نشعر فيه. قد يكيّفون الشوارع في المستقبل هنا، بينما يستمر «التقنين» علينا. الكهرباء لا تنقطع في الـ«داون تاون».
ليست الأسباب الاقتصادية وحدها سبباً في التبدل الجذري في تفاصيل العلاقة بين المدينة وأبناء ضواحيها، الذين كانوا يخشونها، وفتح الاعتصام لهم نافذةً تطل عليها. «عندما كنا هنا، كنا نتحدث عن التابو، وأنواع الألبسة والسيارات» تقول فاتن، الطالبة اليسارية. فرض المكان نفسه على ميولها اليسارية. اليوم، في الضاحية، حيث ترتاد المقاهي الأقل كلفةً، عادت النقاشات تأخذ شكلاً سياسياً بارزاً. ربما لأن السياسة التي كانت بحد ذاتها سبباً مباشراً للاعتصام في وسط بيروت، حدث طارئ. لا يتذكره إلا الذين لسعهم العجز في الموازنة. «رواد الداون تاون اليوميون ليسوا بحاجة إلى السياسة إلا للبرستيج، لمَ يغيرون أحوالهم؟ إنها ممتازة» تناقش فاتن نفسها. جلٌ ما يشغل بالها اليوم، هو إعادة تسمية «البلد» إلى المنطقة، بدلاً من سوليدير. تبتسم، وتسأل السؤال الأصعب: «شو يعني سوليدير؟».


معالم الاعتصام: «البامبونة»

لعل أصعب ما يمكن تعويضه من الاعتصام هو «البامبونة». هذا ليس مطعماً إيطالياً، بل مجرد مصطلح لبناني مشتق من الأصل الفرنسي Bonbon. كان شبّان الاعتصام، على ما يؤكده أحد «المداومين» هناك، يطلقون هذا الاسم على المبنى القديم، في ساحة رياض الصلح، الذي كان صالة سينما أساساً، بسبب شكله الهندسي الغريب. كانت تحصل أشياء كثيرة هناك. أشياء أغضبت مرجعيات دينية، حريصة على «الأخلاق».