أحمد محسننقلت مجلة كيكا منذ فترة ترجمةً للشاعر سعدي يوسف، لوثائق أميركية بالغة السرية، نشرت أخيراً، وتتحدث عما جرى في جبال بوليفيا، يوم 8 تشرين أول 1967. الواحدة والنصف بعد الظهر: بدأت معركة تشي الأخيرة في كبرادا دل يورو. سيمون كوبا سرابيا، وهو عامل منجم بوليفي، يقود مجموعة الثوار. تشي خلفه، مصاباً في ساقه بعدة إصابات. سرابيا يحمل تشي ويحاول إبعاده عن خط النار. إطلاق النار يُستأنَف وتسقط بيريه «خوذة» تشي عن رأسه. يُجلس سرابيا تشي على الأرض كي يتمكن من الرد على النيران. كان محاصَراً ضمن أقل من عشرة أمتار، فأخذ الرانجرز (وحدات من الجيش البوليفي دربتها الولايات المتحدة الأميركية) يركّزون نيرانهم عليه، واخترقه رصاصٌ كثير. حاولَ تشي مواصلة إطلاق النار، لكنه لم يستطع استخدام بندقيته بيدٍ واحدة. أصيبَ ثانيةً في ساقه اليسرى، وسقطت بندقيته من يده، واحترقتْ ذراعه.
قبل ثلاثة أعوام، كانت الأمور مختلفة في الجنوب اللبناني. لكن الوجوه تتشابه. القصص الطرية ذاتها. ثلاث دقائقٍ فقط. لا تسمح الذاكرة بأكثر من ذلك. يدخل الموت إلى قامات الرجال ويخرج. يقترب. لا ينامون إطلاقاً. يلقون نظرةً على الأزهار النحيلة. يستعدون لإطلاق الصواريخ باتجاه الأراضي المحتلة. مهدي، محمد، موسى، شادي، ومحمد. تدنو الشمس العتيقة من بلدة حاريص، التي تستكين هادئةً في أحضان بنت جبيل. يزحف الضوء حزيناً. تعوقه طائرات الاستطلاع الحربية المعادية. يطلق المقاومون صواريخ الكاتيوشا، ويستعدون لإخلاء مواقعهم. كانت الكاتيوشا تدب الرعب في قلوب النازيين، وما زالت إسرائيل النازية تخشى صوتها. تراجع مقاومان إلى موقعٍ جديد، على متن دراجة نارية. كان أحدهما مبتسماً، فيما همَّ الآخر، بكسر الحصار. عبرا في الأودية. يزحفان على عشب متعب. يقسمان الوقت إلى نصفين: وقت للقتال، ووقتٌ للصلاة. يبتلع العدو السماء، وتغرق ثيابهما العسكرية في خضرة المكان. المقاومان يخرجان من رحم الأرض كالأشجار. لم يغادرا الدراجة. غدرهما صاروخ إسرائيلي، فاستشهدا. بقيت دماؤهما السريعة حتى آخر أيام الحرب. تشابكت مع أضلاع القرى، مع العشرات من الرجال. مع ثلاثة آخرين حاربوا لواء ناحال (من وحدات النخبة الإسرائيلية) في حولا، ومع رجال في صريفا استشهدوا عطشى، على مقربة من النهر.
بعد ألف عام، إذا استمر البشر في طباعة كتب التاريخ، فسيذكرون أن الشعوب بصقت دائماً على الاحتلال. سينسون تفاصيل هؤلاء الشهداء: كتبهم الجامعية، مواسم الزيتون، حبيباتهم، قاماتهم، حناجرهم، وكل شيء. فلنأمل أن تنجو الدقائق الأخيرة من كارثة سوء الذاكرة، فالثورات لوثة جميلة. ينبغي عدم المبالغة في غنائها، كي تترك خلفها بقعاً مضيئة، كغيفارا، ومهدي، ومحمد، وموسى، وشادي. أولئك الذين يشقون الطرق إلى الدفء بالمحاريث والأجساد العارية. يتمهلون قبل الغسق الأخير. يبحثون في الدقائق الحمراء عن وداع لائق. أن تكون ضد الحروب، لا يعني أبداً، أن تضع نعلك في فمك، وتمجد آلة القتل على الفضائيات. الحرب على الحرب، قد يكون هذا موقف أولئك المقاومين، منذ المعارك الأولى، حتى لحظة الموت الزائف. قبل موته بلحظات، همست عيناه: لا أشعر بالألم. أغلقهما بهدوء تام.