حسن خليل


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

غريبٌ أمر «الأمّة العربية». ما كان في الخفايا والنيّات أصبح في العلن، وليس من خجل. شعار «لبنان أوّلاً» لم يعُد حصراً على اللبنانيّين، ولم يكن همّ المبادرين الأوائل لوضع المصلحة الداخلية أمام مصلحة «الأمّة». أنور السادات استعمل «مصر أولاً» حجته لتوقيع اتفاق كامب ديفيد، وبه كسر ظهر «الأمّة». وقلّده الملك حسين بتوقيع اتفاق وادي عربة لأن «الأردن أولاً» هو الأولوية. نظر ياسر عرفات إليهما بعد يأسه من نتائج مؤتمر مدريد سنة 1990 وقال لنفسه أيضاً: لا أمل من «الأمة العربية» وسار في مفاوضات أوسلو السرية، كتمها حتى عن أقرب مفاوضيه وقتها حيدر عبد الشافي وحنان عشراوي. «فلسطين أولاً»، ولو مصغّرة، لأن العرب أصلاً باعوها ولن يكونوا إلى جنبه لاستعادتها. رأت دول عربية أخرى أن الفلسطينيين يفاوضون إسرائيل سراً، وأن قلب «الأمة»، مصر، وصدر المواجهة، الأردن، قد وقّعا اتفاقيات معها، فلماذا يخاطرون هم برفاههم؟ لن يكونوا ملوكاً أكثر من الملك. انتشرت المكاتب التمثيلية والتجارية لإسرائيل من تونس والمغرب إلى كردستان مروراً ببعض الخليج، وأصبح شعار «تونس أولاً» و«العراق أولاً» و«الخليج أولاً» ركيزة النظام.
هل يمكن تلخيص واقع العرب والعروبة في أسطر قليلة؟
الصومال وموريتانيا وجزر القمر وجيبوتي أعضاء في جامعة الدول العربية. أكثر من 75% من الشعب العربي لا يعرف ذلك. الصومال، لا يفهم خبراء السياسة اليوم ما الذي يحصل فيه ومَن هي المحاكم الإسلامية ومَن الحاكم في النظام. موريتانيا تختبر تجربة العراق وسوريا في الستينيات من انقلابات.
تونس الخضراء أصبحت أوروبية الهوى لا يمنعها من اعتماد اليورو سوى رفض أوروبا لذلك. القانون المدني أقوى من الهوية العربية، ومَن يمانع أو يعترض فلا ضيم إن انضمّ إلى «عالمه العربي». المغرب تائه بين أصوليته الإسلامية ونظامه الملكي، بين نفوذ يهود إسرائيل المغاربة السفارديم ونمو عدد جهادييه. لكن الأهم أن لا علاقة له بهموم عرب الشرق الأدنى. وضع الجزائر أصعب. كانت الجزائر الوسيط الدائم بين الدول الشقيقة. اليوم تحتاج إلى وسيط بين العشائر والقبائل والأصوليين الدمويين والجيش والرئاسة. ليبيا راديكالية كالعادة. من مستهزئة بالأمة العربية لـ«تخلّفها» وعندها هي في وسط أفريقيا لا علاقة لها بالعرب والعروبة. فجأةً هي في قلب الممانعة (الكلامية). إذن هي عربية و«أفريقية».
لعنة السودان دارفور والجنوب والموارد الطبيعية والنيل والدلتا الخصيبة والجبل المشع. لا عجب إذاً أن لا ينام السودانيون هنيئي البال، وأن لا تكون العروبة أحد همومهم. يكفيهم همّهم جوار تشاد ومصر. أمّا قلب العروبة، مصر، فقد قررت الخروج من العالم العربي في قرارها توقيع كامب ديفيد. بعد ثلاثين سنة، رغبت في العودة إلى الموقع نفسه. غاب عن بالها أن سوريا أصبحت دولة مركزية عربية غير سوريا التي كانت عند توقيع كامب ديفيد، وأن السعودية في الجغرافيا والمال أكبر من أن تكون في مصافّ الدول الثانية. تارةً تتفق مصر مع السعودية في مبادئ إدارة الصراع وتختلف معها في الواجهة والتكتيكات. تريد أن لا تفقد مغانم السلام المزعوم وأن تساوم على المستقبل المجهول.
وهم الوحدة ظهر مجدداً في اليمن الميمون. القبائلية أهم من المواطنية والعروبة. مَن يدري، قد يكون هناك شمال وجنوب مرة أخرى. عسى أن لا يكون هناك يمن شرقية وغربية أيضاً.
الخليج العربي في صراع مستمر بين إرغامه على أن يكون فاعلاً في العالم العربي طمعاً في مصادره المالية، والمحافظة على رفاهية أهله. عُمان مستقلة دوماً تطلب أن تُترك لشأنها. الإمارات والكويت والبحرين تعرف حدودها. لا تنكر حساسية واقعها الديموغرافي والجغرافي والاجتماعي. لا حيلة لها إلا الاتكاء على الدولة الأقوى، السعودية، لتكون واجهة التفاعل في «القضايا العربية». أصبحت هذه القضايا معقدة لهم، والمبادرات أجدى أن تكون من السعودية.
قطر طمحت بدور مميّز ونجحت فيه لتصطدم بواقع حجمها الجغرافي. مملكة الحرمين الشريفين والصحراء الشاسعة والنفط الوفير والحدود مع الجميع، تؤدي واجبها بالانفتاح على الغرب والشرق وتطلق مبادرات السلام، لكن لا تدري ما تفعله إذ ما من مجيب. ما زالت تعلن أن إسرائيل عدوة، لكن إيران هي التي تقلقها. تدعو إلى حوار بين الأديان علّها تبادر إلى حوار بين المذاهب الإسلامية.
أمّا في العراق، فالمذاهب تتقاتل و«العراق أولاً» ثم «الشيعة أولاً» و«السنّة أولاً» و«الأكراد أولاً» هي عناوين الحياة اليومية.
يبقى الشرق الأدنى، ومنه الأردن. وقّع وادي عربة أملاً في الحصول على مياه وعلى ضمانة ديمومة الوطن. لم يحصل إلا على 15% من مياه نهر اليرموك، وما زال السيف المُصلَت عليه هاجسه الأول: الوطن البديل.
سوريا لم تغيّر ممارستها منذ السبعينيات. تعلم حدود قوتها، كذلك حدود مناورتها. مجتمعها عروبي، لكن كالمقاومة في لبنان لا يستطيع المواجهة وحده. لذلك لا بد من الممانعة في الحد الأدنى إلى أن «يقضي الله أمراً كان مفعولا».
ماذا عن لبنان؟ هو البلد الوحيد الذي يجمع كل تناقضات وتشابهات العالم العربي. أصولية دينية وعقلية عشائرية والمحافظة على ديمومة النظام و«حبّ الجهاد» و«حبّ الحياة». الصراع مع إسرائيل والسلام معها. حضارة الفينيقيين وحضارة الإسلام والعرب. السماء فيه زرقاء وصفراء وبرتقالية وخضراء...
مساكين العرب ورحمة الله على العروبة. في الرحلات السياحية أصبح اختيار الزيارة مشروطاً من العرب أن لا يكون في المدينة المقصودة عرب.
هنيئاً لتركيا وماليزيا، ويأساً على أمة أبو نوّاس.