شارك في معركة الدفاع عن فلسطين عام 1948، جنباً إلى جنب مع الزعيم الصيداوي معروف سعد وعدد من أبطال مدينة صيدا. هذه ليست معركة عابرة في حياة عدنان سعد الذي لم يحد يوماً عن خط المقاومة، معبّراً عنه بأساليب لا تخلو من طرافة
صيدا ــ خالد الغربي
لا يكلّ عدنان سعد، أبو جهاد، ولا يهدأ. تراه دائماً يتقدّم بأفكار «ثورية» لا يستسيغها كثر ممن يرون في «فنعاته» خروجاً عن المألوف. فعندما نحت قبل سنوات نصباً لشخصه ووضعه أمام مدخل منزله، وتحته لوحة يشير فيها إلى الجذور المصرية لعائلته، انهمرت الأسئلة المتهكّمة: كيف لرجل بكامل قواه العقلية أن يصنع تمثالاً لنفسه، ممجّداً ذاته؟ إجابة الرجل على «المتطاولين» كانت «مبدئية». يؤكد أنه لم يقم بهذا الأمر «لا للشخصنة ولا تمجيداً للذات، لكن من لا يكون وفياً لذاته لن يكون وفياً لأية قضية سواء كانت صغيرة أو كبيرة، ومن لا يحترم ذاته لن يستطيع احترام شيء آخر».
رغم ذلك، تراه يتردد في الموافقة على طلبنا التقاط صورة له مع معشوقته، بندقية «المرتيني»، فيقول: «لشو هالحركات والصور؟ سيقول الناس إن أبو جهاد يحب الصور ومبسوط بحالو». لكنه يعود فيوافق لاحقاً على مضض، «ليس تباهياً بل رضوخاً لإصرارك، ولتأكيد أن البندقية ما تزال بين يدي ولم يرهقها النضال».
هذه «المرتيني» (بندقية قديمة جداً) كان لها ذات يوم شرف مقاومة الصهاينة «أولاد الأبالسة»، حسب تعبير محدّثنا، الذي يسرد كيف انخرط في معركة الدفاع عن فلسطين ضد الصهاينة عام 1948، حين ذهب تحت لواء ابن عمه الشهيد معروف سعد، إلى هضاب فلسطين. يروي تفاصيل تلك المعركة بدقة: «قاتل معروف ورفاقه قتالاً مشرّفاً وانتصروا على عصابات الهاغاناه وحرّروا الهراوة. ومن الهراوة انتقلوا إلى المالكية، حيث تصدّى بضعة مقاتلين بإمرة الشهيدين معروف سعد ومحمد زغيب تصدّياً أسطورياً للهجوم العنيف الذي تعرّضت له المالكية من قبل العصابات الصهيونية. وتحت زخات القذائف انتقلنا أنا وخضر سكيني، الذي أشهد له أنه أبلى بلاءً حسناً في القتال هو ومجموعة الشباب المتطوعين تحت إمرة معروف، من قلب المالكية الى المواقع المتقدمة، حيث كان معروف داخل دشمة يفرغ رصاصه بوجه العصابات، فيما كان الشباب يعدّون 1، 2، 3... في إحصاء لعدد القتلى الذين سقطوا من اليهود». ويذكر سعد سقوط قذيفة «سيلابند» على الدشمة التي يوجد فيها النقيب محمد زغيب فأصيب إصابات خطرة، وسارع معروف إلى محمد وحمله، بينما كان الأخير يوصيه بالقتال حتى الرمق الأخير: «إياكم أن تسقط المالكية».
فرادة أبو جهاد الذي يتربع على اثنين وثمانين عاماً، أنه لا يزال ثائراً على كل ما هو سائد: «أحاول كسر القوالب الجامدة والتقاليد البالية»، وإن كان يعلم أن هذه الميزة تجلب الكثير من «طوشات الراس» وخصوصاً في عمله في الشاحنات والجرافات لنقل الرمول والحجارة.
آخر إبداعاته اليوم، لافتة من القماش، وضعها على مدخل منزله في سينيق (صيدا) كتب عليها بخط يده «كم من مسؤول يجب أن يضرب بالحذاء، وكم نحن بحاجة إلى العشرات من أمثال منتظر الزيدي لنمارس الرشق بالصرامي على وجوه الخونة». وقد علّق أبو جهاد في أسفل اللافتة حذاء، بل «صرماية عتيقة» كما يقول، «حرام أن يلوّث الحذاء الجديد الوجوه السوداء».
برأيه، من المهم التركيز على ظاهرة منتظر الزيدي «لكي نصفع بأحذيتنا وجوه الظالمين من المسؤولين العرب واللبنانيين (يسمي من هم بنظره صهاينة أكثر من بني صهيون)»، مطالباً بتعميم «ثقافة الرشق بالحذاء ضد مستحقيها وهم كثر في وطننا العربي» و«من منكم لا يمتلك وسيلة أخرى فليرجم المسؤولين بحذاء، وهذا أضعف الإيمان».
طقوسه الخاصة في فهم الحياة دفعته إلى انتقاء شعاراته بعناية ودراية. من هذه الشعارات ما يترجمه في علاقاته اليومية، ومنها ما خطّه على لوحة خشبية وضعها في صدر المنزل: «إن من أموالكم وأولادكم عدواً لكم، فاحذروهم». يشرح سبب اختياره لهذه العبارة: «لا للمذمّة بأحد ولا بالعائلة، إنما أنا ملتاع جداً من المال السياسي وغير السياسي الذي أنفق وينفق بهدف إفساد القيم والعادات المجتمعية وتغييب الأخلاق وتخريب النفوس». شعار آخر ردّده أكثر من مرة في جلستنا معه «حماية اللسان» على قاعدة «لسانك حصانك، إن خنته خانك وإن صنته صانك».
يشكل هذه الحديث مدخلاً إلى الحديث عن الانتخابات النيابية بين اليوم والأمس. يقول أبو جهاد من موقع العارف ببواطن الأمور: «الفرق بين الانتخابات قبل نصف قرن وما هي عليه اليوم شاسع جداً، كنا نعتمد على الشعارات والمبادئ، لا على الرشى ودفع الأموال كما يحصل الآن». ويذكر كيف كان أبناء القرى الجنوبية وبعض قرى الإقليم والجبل يأتون في مواكب ووفود، من تلقاء أنفسهم، حاملين أعلام قراهم ويقومون بتقديم المرطبات والحلوى تهليلاً لفوز مرشح كمعروف سعد. «أما اليوم، فقد أقفلت المناطق والمدن على نفسها... هذا سنّي وهذا شيعي وهذا مسيحي، بينما سابقاً كنا نقول هذا وطني وذاك رجعي».
هؤلاء الوطنيون يحتلون مكانهم على جدران منزل أبو جهاد المقيم منذ أكثر من نصف قرن على ضفاف نهر سينيق جنوب صيدا. يذكر أنه كان ينعم بخرير مياه النهر قبل أن يتحول النهر إلى «نهر للمجارير ومجرور كبير» يقول ملك سينيق، كما يسميه الكثيرون في المنطقة. «الملك» طلى جدران منزله وشرفاته الداخلية كلها باللون البرتقالي تحية إلى الجنرال ميشال عون: «لقد اكتشفت صدقه ووطنيته فطليت هذه الأقسام بالبرتقالي تحية مني أنا أبو جهاد سعد لهذا الزعيم الكبير». كما نجد صوراً لكلّ من جمال عبد الناصر ومعروف سعد، وصولاً إلى قادة الثوار العالميين. كذلك يجد المتجوّل داخل منزل أبو جهاد أكثر من آلة أو تحفة من الزمن القديم، يكاد يتعثر بها. فعند مدخل المنزل، صنبور مياه يعمل على الضغط اليدوي «لا يزال قيد الخدمة الفعلية وكأننا في بنغلادش» يقول ممازحاً. وفي بهوه صندوق خشبي ضخم يشبه البيانو صنعه أبو جهاد بنفسه ودسّ فيه «ترانزستور» قديم وأسطوانات عتيقة ما تزال تعمل. هذا الأمر يستدعي ملاحظة: «التكنولوجيا الحديثة فيها خنق للإبداع». أما إحدى زوايا المنزل فقد تحوّلت إلى ما يشبه صالة عرض أو متحف حربي بمحتوياته من المسدسات والبنادق التي «أكل الدهر عليها وشرب» يعترف الرجل، لكن رغم أنها لم تعد صالحة «إلا أنها عزيزة جداً جداً على قلبي، فهي تمثل تاريخاً نضالياً مشرفاً».


ترشيح المقاومين

لا يكتفي أبو جهاد بإدلاء رأيه في العملية الانتخابية الحالية، فهو بادر خلال الانتخابات النيابية عام 1996 إلى ترشيح عدد من المقاومين الى الانتخابات عن دائرة الجنوب. وقد شكل لائحة كان على رأسها آنذاك الأسيرة المحررة من معتقل الخيام سهى بشارة. وبرّر سعد في بيان انتخابي إقدامه على هذه الخطوة بضرورة أن يحكم لبنان الشرفاء والمقاومون.