عبد الحليم فضل الله*قفز الشأن الاقتصادي إلى واجهة الصخب الانتخابي، والهدف على ما يبدو إحباط الخيارات البديلة عبر تعريض أصحابها لمساءلة استباقية رادعة. فجأة يدور النقاش حول فكرة واحدة: إن فوز المعارضة سيضع لبنان أمام متاعب ومخاطر لم يعهدها سابقاً. والفكرة تستحق النقاش لو أن قوى السلطة أحسنت صنعاً، أو أن سلالها ملأى بالغلال. بيد أن زرع المخاوف في هذه المرحلة الفاصلة يستبطن مديحاً لتجربة تستحق الإدانة، لا لما سبّبته من أزمات، بل لأنها أدت خصوصاً إلى قيام اقتصاد غير واقعي يعمل وفق شروط استثنائية لا يمكن توفيرها دائماً.
لكن الضجيج الانتخابي الذي يرمي الى إقلاق راحة الخصوم، والتهويل على الناخبين، يعبّر أيضاً عن قلق كامن لدى النافخين في نار الهواجس المالية والنقدية، وهذا مؤشر إضافي على أن لبنان وصل فعلاً إلى أحد التقاطعات الرئيسية، وأن مقاربة داخلية جديدة يمكن أن تولد داخل هذا المخاض الوطني والإقليمي العاصف. ومع أنّ التغيير هو بنظر معظم اللبنانيين مطلب مزمن وبارقة أمل تلوح بعد كل منعطف، فإنه بنظر أقلية منهم مخاطرة صعبة وعبث بنظام المنافع الذي يتماهى بحسبهم مع المصلحة العامة.
وبغض النظر عما ستؤول إليه الانتخابات، فقد حان الوقت للتوجه نحو أفق داخلي جديد، والمسؤولية هنا هي على عاتق من أعلنوا ويعلنون الاستعداد لحمل لواء التغيير، وكانت لديهم الجرأة في السابق لرفض السياسات التقليدية التي جددت نفسها بسهولة مستعينة بسخاء أسيادها الجدد. لكن اعتماد مقاربة جديدة لا يعني البتة القطيعة مع ما سبق، أو الرفض الشامل والانتقامي للسياسات القائمة، بل يتطلب مراجعة بضعة مفاهيم ومبادئ كان لها الدور الأبرز في وضع الأداء الاقتصادي والمالي في مساره الراهن الضيق والحرج.
لنبدأ بالاستقرار الذي يفاخر صانعو السياسات بالمحافظة عليه طوال المرحلة الماضية، وهذا صحيح إلى حد ما، لكنه كان استقراراً غير بنّاء لأنّه قام على حساب الفعالية الإنتاجية، واستند إلى الإفراط في الإنفاق والاستدانة والاعتماد على الخارج. ولم يكن تعريف الاستقرار سطحياً ومحدوداً فحسب، بل كان مضلّلاً أيضاً. فقد تمثل في عنصرين وحيدين: الأول هو الحفاظ على ثبات سعر صرف الليرة اللبنانية تجاه الدولار بهامش تقلّب يصل في بعض الأحيان إلى صفر في المئة، والثاني ضمان أن تفي الحكومة بالتزاماتها في الأوقات المحددة. لكن العملة المستقرة حسابياً تجاه الدولار لم تكن كذلك من الزاوية الاقتصادية، إذ كانت تتقلب باستمرار تجاه العملات الرئيسية الأخرى، وقد دفع اللبنانيون ثمن هذا التقلب حين قوي الدولار في التسعينيات فانخفضت الطاقة المحلية على التصدير، وحين تراجعت أسعار صرفه فارتفعت الأسعار في لبنان بنسب تصل إلى ضعف ارتفاعها في منطقة الدولار نفسها.
أما تمويل عجز الخزينة بالدين، فانتهى إلى فصل غير مسبوق بين المالية العامة والاقتصاد المحلي. وفيما يقارن الدين العام وكلفته النسبية عادة بحجم الناتج المحلي ونموّه، كان من المعبّر بالنسبة إلى لبنان المقارنة مع إجمالي الودائع المصرفية والنمو السنوي للتدفقات المالية الوافدة سنوياً من الخارج. وهذا معناه أنّ المالية العامة تحولت إلى قطاع خارجي تربطه صلات ضعيفة بالنشاط الاقتصادي الداخلي وما يمكن أن يوفره من موارد للدولة. إن فهم هذه النقطة سيساعد على تحليل وتفسير الطرق الغريبة والمتطرفة أحياناً لاتخاذ القرار المالي في لبنان، فقرارات الإنفاق تتخذ بسهولة فائقة، فيما تعترض القرارات المتعلقة بالإيرادات عقبات كثيرة. فوفرة السيولة المصرفية المقترضة، أتاحت للحكومة الحصول على فائض تمويل في الوقت الذي تختاره، وأضعفت حوافزها الخاصة على تحفيز الإنتاج، ومع أن ذلك أدى إلى خفض ملاءتها المالية لكنه لم يضطرها إلى اعتماد خيارات صعبة مثل «تنقيد الدين» (طباعة النقود لخدمة الدين العام)، أو الدخول في مواجهات حاسمة مع مراكز الضغط التي تدافع بقوة عن استمرار لبنان على نهجه الراهن. بوسع قوى التغيير أن تقدم مثالاً جديداً للاستقرار، يعيد ربط السياستين المالية والنقدية بأوضاع الاقتصاد ومؤشرات نموه، ويتعدى التعريف المبسط ليشمل استقرار المؤشرات المالية والنقدية، وقبل ذلك الاستقرار الاجتماعي. وقد أظهرت تجربة السنوات الماضية أن التركيز على سياساتٍ دون سواها، لم يساعد على تكوين مظلة تحمي الاقتصاد ككل، بل أدى إلى نقل الأزمة من مجال إلى آخر.
أمر آخر يستحق المراجعة، وهو تلاشي القاعدة الإنتاجية لمصلحة تركيز الجهد على جذب الأموال من الخارج. والاقتصاد الريعي في لبنان فريد من نوعه، لأنه يرتّب التزامات لاحقة تتنامى باطّراد على عكس ما هي عليه الحال في الدول التي تتمتع بثروات طبيعية. وما ينطبق على الكلفة المعروفة للدين العام والخاص وودائع غير المقيمين، ينطبق على المساعدات الأجنبية التي تحولت إلى مورد ثابت وتتمثل أعباؤها في كلفة التكيف مع الشروط والمتطلبات التي تضمن استمرارها. أما تحويلات المغتربين التي تناهز ربع الناتج وتؤدي دوراً إيجابياً في تخفيف التوترات الاجتماعية، فإن قيمها الاسمية أعلى بكثير من قيمها الصافية، بعد حسم الكلفة الباهظة التي يتكبدها لبنان لتأهيل قواه العاملة المهاجرة. ومن التكاليف غير المنظورة الأخرى لاقتصاد الريع هو تشويه الأسعار النسبية وتشجيع الأنشطة غير المنتجة، وإضعاف التنوع الاقتصادي والاستثماري الذي وصل إلى أدنى مستوياته منذ الاستقلال.
يفترض التغيير توافقاً عاماً يشمل الفائزين والخاسرين، والشرائح الاجتماعية المختلفة وأطراف الإنتاج. وإذا كان للأمر تبعاته ومجازفاته فإنها لا تقاس بمغامرة السير نحو الهاوية، على أن يكون هناك في الأسفل من سيهبّ لالتقاطنا في اللحظة المناسبة.
* رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق