التسكّع في حارات دمشق وشوارعها له وجوه كثيرة، ابحث عن الجمال هناك، في الصالحية وسوق الحميدية، في وسط البلد والحمراء والساروجة... الهروب إلى شوارع الشام هروب من القبح الذي يقتحم حياتنا، من الموت الذي تنقله الشاشات، فسحة حرّة لعابر سبيل يعشق مسابقات الجمال
خليل صويلح
أن تقطن في «الصالحية» وسط دمشق، هذا يعني، أنك في قلب جحيم الجمال. هنا في هذا الشارع المخصص للمشاة، ستصادف عاصمة مختزلة للوجوه والأجساد كما لو أنك في غاليري في الهواء الطلق. بإمكانك أن تعقد مقارنة بين «الموديل» الصامت في الواجهة و«الموديل» الذي يحاول تقليده في الشارع. فالحياة هنا، كما في أيّ سوق للأزياء والموضة الدارجة، واجهة بلّورية لجميع أنواع البضائع والسلع، من الأحذية المستوردة إلى أرقى ماركات سراويل الجينز. سوف تقودك مخيلتك إلى تشكيل صور أخرى، خلال مشوارك اليومي.
في الصالحية لا بد ستصادف عرضاً متنقلاً للأزياء، فما تبخل به المحتشمات في مدخل الشارع من جهة ساحة عرنوس، تعوّضه بعد خطوات متسوّقات الشوارع الفرعية التي تصل ما بين شارعي الصالحية والحمراء بكرم شديد، لا يخلو من إغواءات عابرة، على رغم الشتاء القارس. صديق مصري يزور دمشق للمرة الأولى، يعلّّق بأسى وذهول على «وحشية» جمال النساء في دمشق، ويستغرب اللامبالاة التي أبديها أمامه تجاه موضوع حيوي بالنسبة إليه. في هذه اللحظة، ربما أشعر بغرور من نوع ما، وكأن كل من تعبر في الشارع تخصّني وحدي.
في مقهى «الروضة» الذي يقع عند نهاية الشارع، يكرّر الصديق الموضوع ذاته... على أنغام «الشيشة»، فأستعير موقع عالم الاجتماع، في تفسير خريطة جمال بطبقات متعددة. «جمال نساء الصالحية» أقول له، يختلف عن جمال نساء سوق الحميدية، وجمال نساء شارع الحمراء يختلف عن جمال نساء باب توما. ذلك أن الجمال السوري في المحصلة، هو جمال حوض المتوسط عموماً. هناك جمال شعبي «بلدي»، تجده في نساء سوق الحميدية، تعرفه من طبيعة النظرة والالتفاتة والابتسامة والزيّ بالطبع. جمال أكثر حشمة، لكنه متبرّج.
أما جمال نساء الصالحية فهو مزيج من كل أنواع الجمال، باعتباره منطقة عبور، ومصباً لكل ينابيع الجمال السوري. جمال مكشوف، وآخر مستتر وراء حجاب. دلع وخفر، مواعيد سرّية، وتسوّق. يهزّ الصديق المصري رأسه، فيما ترصد عيناه بشغف، إحدى العابرات أمام زجاج المقهى، وأخرى، تعبر المقهى إلى الداخل بكامل صخبها. يقول ضاحكاً «شكراً لمن اخترع الجينز»، قبل أن يضيف بأنه «قنبلة موقوتة»، يتمنى لو أنها تنفجر به، في أية لحظة.
في مربع «وسط البلد»، أقصد من ساحة عرنوس شمالاً إلى ساحة يوسف العظمة جنوباً، ومن حي الشعلان وأبي رمانة غرباً إلى سوق ساروجة شرقاً: تتجاور المتناقضات على نحو صريح، ولكلٍ جماله الخاص، وسطوته الحسية: بعد الحادية عشرة ليلاً يقف طابور من الشباب أمام ملهى «الطاحونة الحمراء» في شارع 29 أيار (شارع الشهداء)، في انتظار وصول قافلة من الراقصات الروسيات. إنه موعد مقدّس بالنسبة إلى هؤلاء «المتبطلين» طالما أنّهنّ في اللباس الميداني الكامل. سوف تخرج بعض التعليقات العابرة، من هنا وهناك، ثم تتفرق الجموع، بعد أن تكون قد أفرغت شحنة الانتظار واللهفة والرغبة المشتعلة في اكتشاف الجمال «المستورد». إنها «سلعة» أخرى، بنظر البعض، لكنها من موقع سوسيولوجي، تصبّ في صلب تدريب العين على أنواع الجمال العابر للقارات، بعدما هيمن القبح البصري على حياتنا، بالإضافة إلى صور الدمار والموت اليومي الذي تضخّه الشاشات على مدار الساعة. عين الأنثى لا تقلّ هجومية، في المقابل. فجيل اليوم أكثر جرأة في «النظر». فتاة اليوم لم تعد تبالي بنظرية «الخفر الشرقي»، بل بالعكس تماماً، فهي ترصد تفاصيل لا يعتني بها الرجل عادة. لنقل إن النظرة الذكورية عمومية، فيما نظرة المرأة تفصيلية. تبدأ من الحذاء وتنتهي عند شكل الشاربين، وتسريحة الشعر.
علم الجمال اليوم، تجاوز فلسفة «هيغل»، ودخل في مناطق أكثر تركيزاً، ذهب باتجاه الحسية المطلقة، أقول لصديقي المصري متفلسفاً: في فرنسا مثلاً، صعد فجأة اسم ميشال أونفري كآخر سلالة فلسفية معاصرة، فهذا الفيلسوف الشاب اقتحم المكتبات في سلسلة دراسات مثيرة عن الجسد وتحوّلاته التراجيدية، سرعان ما وجدت مكانها لدى القرّاء. ثلاثة كتب تدور حول فلسفة الجمال من وجهة نظر مضادة، تنهض على مزج فلسفتَي فريدريك نيتشه وجيل دولوز، في معنى العدمية وسطوة الصورة. كتابه الأول «فن اللذة من أجل مادية حسية ونظرية» أطاح نظريات سابقة بدخوله مناطق، كانت قبله، وعرة فلسفياً، ثم جاء كتابه المثير للجدل «الجسد العاشق: من أجل شهوانية مشمسة»، وأخيراً «الرغبة في التحوّل إلى بركان». فلسفة ميشال أونفري، هي مزيج ذكي من التفكير المرح الذي يستعين بالفلسفة وأدوات العلوم الإنسانية، والأدب، ليمجّد الرغبة والذوق والجمال. فالقمع الذي طال الجسد اليوم، بسبب العنف، يجد ضفة أخرى، في فلسفة صادمة كهذه، مهمتها صناعة عنف الجمال، لتخفيف خسائر البصر مما لحق به من قبح وفناء في حروب تحصد يومياً مئات الأجساد مجاناً، أجساد كانت قبل موتها مباشرة، تحلم وترغب بأشياء كثيرة مؤجلة.
جولة الجمال في وسط البلد لا تكتمل دون التسكع في «سوق ساروجة» فالحي الشعبي فقد خصوصيته التقليدية، بعد انتشار المقاهي على جانبي الشارع، واقتحام «الفرنجة» للمكان. نساء من كل القارات في مباراة علنية للجمال.
جولة يومية إذاً في شوارع الصالحية أو الحمراء أو سوق ساروجة، وصفة ناجعة، لاستعادة الجمال المفقود، وفرصة لتأمل ما يجري في شوارع اليوم من تحولات متسارعة، يصعب وضعها في إطار واحد، مثلما هي جولة رصد ميداني لما وصلت إليه الموضة: الجينز أم الفيزون؟يجيب الصديق المصري بعد أن يسحب نفَساً عميقاً من شيشته «أحلاهما مرّ»، لكنه في نهاية المطاف ينتصر للجينز باعتباره موضة عابرة للأزمنة. حرباء تتلون تبعاً للفصول، سراويل تستحق تحية خاصة، سواء كانت ضيّقة أو واسعة، بخصر نازل أو متماهية مع الجسم، مفتوحة عند الركبة أو مرقّعة من الخلف، ونخلص معاً إلى نتيجة فاصلة «الجينز خنجر الجمال القاتل».


إنها الموضة يا عزيزي


الموضة وحدها اليوم التي تتحكم بحرية الجسد: بين أن تصبح الفتاة «دمية بلهاء» بلا روح، تفتقد إلى اختيار ما يناسبها من أزياء، وبين أن تسيطر على جسدها بإضافة «ملعقة «من العقلانية، بعيداً عن تحكّم شركات الأزياء التي تزداد كرماً، فصلاً وراء فصل، في ابتذال خصوصية الجسد، وتحويله إلى دريئة مكشوفة للقنص،على مرأى من الجميع.