عندما نُشاهد أباً يضرب ابنه بعنف قد نتساءل «ماذا فعل الصبي»، نجزم بأنه أتى بعمل كريه، بعضنا يشفق عليه، نردد «يا حرام» أحياناً، ولكن قلة منا تحاول أن تتدخل لتمنع الأب من ضرب الابن، هنا يتواطأ أفراد المجتمع مع الوالد «لأن الأمر مسألة عائلية»، وحرمة العائلة مقدسة وفق مفاهيمنا وعاداتنا، نحن لا نفكر بأن سلوك الأب دليل على اضطراباته وعلى ذاكرة دفن فيها آلام الضرب الذي نزل على جسده صغيراً

حلا ماضي
رغم ضجيج أولادي في المنزل، كان صوت صغير يخترق جدران منزلي، وكان وقع الحبل الذي يُسقط على جسده اللين أقوى بكثير من صرخاته الموجهة إلى والده، راجياً إياه أن يتوقف عن ضربه. ظل علي هـ. (10 أعوام) مكبّل اليدين ومربوطاً بحبل على شرفة منزله المقابل لمنزلي البيروتي ستّ ساعات، بعد تلقيه ضرباً مبرحاً من والده أمام عيون أمه وإخوته والجيران الذين خرجوا إلى الشرفات لمشاهدة ما يحدث، دون أن يحرّك أحدهم ساكناً. وعندما صرخت للوالدة طالبة منها التدخل لوقف تلك «الجريمة» أجابتني بحزم: «إنه والده ويعرف كيف يربيه»!
لم أستطع تجاوز «المشهد العائلي الخاص»، اتصلت بالـ112 رقم طوارئ قوى الأمن الداخلي، حيث حُوّلت إلى مخفر، وسألني أحد العناصر عن تفاصيل «الحدث» قائلاً لي إنه سيعاود الاتصال، لكن شيئاً من هذا القبيل لم يحدث!
هذا المشهد ذكّرني بما روته لنا معالجة نفسية تربوية، يوم طلبت منها إدارة إحدى أرقى المدارس في لبنان متابعة تلميذ غريب الأطوار ويُعاني من التأخر المدرسي، التقت المُعالجة الصبي وأمه، وبعد جلسات عدة اكتشفت أن الصغير يُعاني من عنف والده، فطلبت رؤية الوالد، وهو واحد من الأطباء المشهورين في كل لبنان، لم يرد الوالد على طلبها، ولكنها فوجئت باتصال منه ذات يوم، كان يحدثها بعنف «من أنت كي تحاولي التدخل في شؤون ابني؟ هل تفهمين أكثر مني أنا الطبيب المشهور درست 12 عاماً وتفوقت، أما أنت فلم تدرسي إلاّ أربعة أعوام، أنا كنت متفوقاً لأن أبي ضربني وأجبرني على الدراسة وسأستعمل هذا الأسلوب مع ابني لكي يدرس اختصاصاً مهماً، لا اختصاص طق حنك كاختصاصك، لست بحاجة لمن هم أقل علماً مني كي يوجهوا لي النصائح لتربية ابني».
تعكس كل من الحادثتين صورة الوالد عندما كان طفلاً، والد علي والطبيب نفسه تعرّضا للضرب من أبويهما، احتفظ كل منهما بذكرى الضرب والعنف إلى أن أصبح أباً فأسقط غضبه وسخطه على والديه من خلال ضرب أولاده «الأولاد في هذه الحالة يصبحون مرآة الأب» كما تُؤكد أستاذة علم النفس والمعالجة النفسية بيللا عون التي تنبّه إلى النتائج الخطيرة للعنف الجسدي الذي يتعرض له الابن، فقد يعتاد على الضرب وتنمو لديه اللذة والاستمتاع به، وقد تؤدي إلى الانحرافات الجنسية. وتشدد عون على خيار الحوار مع الطفل وإن كان عنيداً، وطرح الخيارات المتعددة أمامه، وتشجيعه ليقتنع تلقائياً بأمر ما.
عون تقول إن أي شخص لا يستطيع السيطرة على نفسه وتصرفاته تجاه الأولاد أو غيرهم أثناء انفعالاته وغضبه، هو حتماً إنسان يحتاج إلى علاج حتى لا تسوء حالته، كأن يطفئ أعقاب السجائر في أجساد أطفاله. وترى أن ازياد حالات العنف الأسري في لبنان مرتبط أيضاً بسوء الحالة الاقتصادية، إضافة الى ما شهدته البلاد من أحداث أمنية وعنف ونزاعات.
إذا كان الأب عنيفاً، فلا شيء يبرر صمت الأم أو سلبيتها، عون تشدد على الدور الذي يجب أن تلعبه الوالدة وسيطةً بين الأب والابن، وبإمكانها أن تعكس صورة إيجابية عن ابنها بدل أن تطبعه بالصورة السلبية في نظر والده. الأم قادرة على إيقاف العنف الممارس ضد الأولاد «فلا تردد أمام الوالد أن الولد عنيد ولم يسمع كلامها، لأنها بذلك تولد لدى طفلها الشعور بالعزلة والنبذ من أهله».
التأثيرات الناتجة من ممارسة العنف ضد الأولاد تأخذ أبعاداً عدة، منها: النيل من قدرات الأطفال التعليمية، وتعريض الأمن والاستقرار النفسي للطفل والمراهق، وبالتالي تدمير حياته النفسية، فيعجز عن التعامل الإيجابي مع المجتمع، واستثمار طاقاته الذاتية، إنه شعور بالعجز يُترجم بعدم رضى عن الذات، إضافة إلى أن الفرد يعجز عن مواجهة التوتر والضغوط بطريقة إيجابية، كما يعجز عن حل المشكلات التي تواجهه إلّا من خلال التردد أو الاكتئاب، ويعجز هذا الفرد عن تحقيق استقلاليته في تسيير أمور حياته.
تكمن خطورة العنف في المنزل بأنه لا يُسمح لأحد باقتحام البيت «دون اتباع طرق خاضعة لأحكام القانون»، كما يشير رئيس «جمعية الاتحاد لحماية الأحداث في لبنان» التابعة لوزارة العدل الدكتور برنارد جرباقة. إذ إن القانون يشير إلى التبليغ عن حالات العنف إذا تعرض الفرد للضرب المبرح، ولكن هذه العبارة تبدو فضفاضة، فالقانون «يغطي بشكل غير مباشر الضرب إلا في حالات استعمال أدوات حادة كجنزير أو سكين»، مع العلم أنه لا يحق للوالدين ضرب أولادهم بطريقة عنيفة حتى بدون استعمال أدوات مؤذية.


خطوات قانونية

«جمعية الاتحاد لحماية الأحداث في لبنان» تتلقى التبليغ إما عن طريق أشخاص، أو بواسطة النيابة العامة، فتتحرى المشكلة وتأخذ الإذن من القاضي المنفرد الجزائي الناظر بقضايا الأحداث في بيروت فوزي خميس للدخول إلى «منزل ما» مع فريق متكامل من أطباء شرعيين ومعالجين نفسيين، وذلك للتحقق من وجود علامات الضرب والعنف، ثم يرفعون للقاضي تقريراً مفصلاً عن الحالة ليبني عليها «الحكم اللازم»، مع الإشارة إلى أن القاضي فوزي خميس أصدر حكماً يمنع بموجبه أحد الآباء من رؤية ابنتيه أو اصطحابهما بعدما تبين للقاضي له تعرضهما لضربه العنيف ووجود ندبات وكدمات نتيجة لربطهما بشريط كهربائي، وقد أبقى القاضي على القاصرتين في دار الأيتام الإسلامية إلى أن يصدر قراراً مخالفاً لذلك من المحكمة