انتهت فترة الأعياد رسمياً، لكن أصوات المفرقعات القوية بقيت تصدح من كل حدَب وصوب، وتحديداً في الأحياء الشعبية المكتظة بالسكان، نظراً لسهولة الحصول على «المفرقعات» من جهة، ولكونها من جهة أخرى رخيصة الثمن. فهذه «المتعة» ربما كانت من المتع الأخيرة التي يملك أولاد الفقراء أن يحصلوا عليها. ولكن، هل هي آمنة؟ ومن يراقب استهلاكها؟
أحمد محسن
من يعرف بيروت جيداً، يُدرك أنها مدينة معتادة الأصوات القوية. هل يكون ذلك لأن أهلها تآلفوا مع أصوات المتفجرات خلال الحرب الأهلية وما بعدها؟ أم لأن الضجيج أصبح جزءاً من مكوّناتها؟ لا نعلم. ولكن الثابت أن «الفرقعة» أصبحت من مستلزمات «العيد» وحدثاً عادياً للناس في مثل هذه الأيام. وإن كان ذلك لا يمنعهم من التذمر من غزو المتفجرات الصغيرة لشوارع المدينة، التي أصبح صوتها يطغى على كل ما عداه، حتى صوت ضحاياها.
اليوم عاد الناس إلى أعمالهم، والتلامذة إلى مدارسهم. لكن، بما أننا في شهر الأعياد، فمن غير المتوقع للمفرقعات أو المفرقعين أن يهدأوا حتى نهاية السنة. لا بل إن ظاهرة الفرقعة توسعت توسّعاً بدأت تنضم إليه جماهير المؤمنين من عوائل الحجاج احتفاءً بعودة حجّاجهم، هذا إذا لم تتعدّ الغبطة ذلك إلى إطلاق الرصاص في الهواء. اللافت في الأمر، تفاقم الظاهرة، بحيث لم تعد الفرقعة مرتبطة بالأعياد بل بالعطَل عموماً.
ولا يتلخص تفشي استخدام المفرقعات في فيضانها عن المناسبات، بل يتعداه إلى التسمية اللغوية أي «الألعاب النارية». فلبعض أنواع المفرقعات اليوم قوة القذائف الحربية، ما حوّل الأطفال، جمهور المفرقعات الأول، إلى «مقاتلين»، يبتاعون «المتفجرات» بعيديتهم، ليطلقوها إمّا في الهواء، أو على بعضهم بعضاً. والحصول على المفرقعات ليس صعباً البتة، وخصوصاً في الأحياء الشعبية. تتنوع هذه المفرقعات بين «الخفيفة والقوية»، كما يعّرف عنها الباعة. وكأي تجارة أخرى، تنسحب عمليات التنافس على أسعار المفرقعات. وتعدّ «زلزال» القطعة الأبرز على الإطلاق في ترسانة المعروض على «المستهلك» اللبناني، كما يؤكد علي الحسّن، الذي يملك بسطةً متواضعة لبيع المفرقعات، في محلة برج البراجنة. يمسك الرجل القطع بيديه الكبيرتين، واحدةً تلو الأخرى، ثم يبدأ بالشرح. «هذه اسمها الزلزال»، و«هي تحدث صوتاً شبيهاً بالزلازل فعلاً». يمسك قطعةً أخرى، أصغر من الأولى بقليل «هذه إصبع شوكولاتة». لكن مفعولها، كما يقول، ليس لطيفاً كما يدل اسمها. «الإصبع يحدث زلزالاً هو الآخر، لكن بلا لون»، ثم يشير البائع إلى شيء يشبه «العبوة» بحجم حقيبة اليد، ويقول إن اسمها «راجمة»، فهي تطلق خمسة عشر طلقاً في الهواء بألوان متعددة، وصوتٍ هائل. أما سعرها، فيعادل خمسة عشرة ضعفاً «الزلزال» العادي، أي خمسة عشرة ألف ليرة. ويشرح الحسن أن أسعاره «ثابتة، وخصوصاً أن أسعار الجملة ارتفعت على التجار ارتفاعاً كبيراً في الفترة الأخيرة»، كما يقول، معيداً ذلك إلى «المورّد الأساسي من المرفأ». هذا الأمر أدى، إضافةً إلى كثرة الباعة، إلى انخفاض أرباحهم مع أن البيع ارتفع بكثرة.
لا تساوي شكاوى الباعة شيئاً أمام الشكاوى من الإزعاج الذي تسببه هذه الظاهرة للناس، وخصوصاً في المدن الكبيرة. فاستعمال هذه المواد مباح لمن يحلو له ذلك وفي أي مكان. لا بل إن السؤال عمن يراقب هذه الأمور يثير سخرية الكثيرين ممّن التقتهم «الأخبار» في ضواحي بيروت. ويشير أغلبهم إلى أنها لم تعد قصة احتفال بعِيد هنا، أو مناسبة هناك، بل يتخطى الأمر ذلك إلى أي مناسبة ممكنة. وتجدر الإشارة إلى أن مناطق العاصمة تتساوى في هذه الفوضى، كذلك يمكن أن تتساوى في حجم «المصائب» التي قد تصيب أهلها، بعد زوال ألعاب نارية تقليدية كالأسهم النارية، أو «الديك»، وهو نوع بسيط من «الفرقيع» بحجم سيكارة لا يحدث أثراً أو صوتاً كبيراً، لمصلحة متفجرات جديدة، تسبب الكوارث.
وحين نقول كوارث، نعني بذلك المصائب الحقيقية. هكذا خسر الفتى علي بدر (12 عاماً) من الشياح كفه، بعدما انفجرت فيها إحدى قطع الألعاب النارية قبل رميها، ولا يزال أهله حتى اليوم يبحثون عن إمكان تركيب عضو بديل. وفي العاصمة، في محلة الضنّاوي تحديداً، أصيبت الطفلة مروى المصري، وعمرها لا يتجاوز السنة، بالحوّل جرّاء صوت مخيف أحدثته مفّرقعة في وقت متأخر من الليل. وبالمناسبة، المفرقعات لا تعرف وقتاً. فقد تتواصل الانفجارات حتى ساعة متأخرة من الليل، أو تكون بمثابة «إعلان» عن صدور نتائج الامتحانات الرسمية بجميع فروعها، أو حتى عن فوز أحد الفرق الأوروبية في كرة القدم.
أضف إلى ذلك، أنه بعد طلب الزعماء من مناصريهم عدم إطلاق النار «ابتهاجاً» بطلاتهم الميمونة، لجأ هؤلاء إلى التعويض بـ«الفرقعة».
هذا عن السياسيين، ولكن ماذا عن الدولة؟ فهل تراقب وزارة الداخلية الظاهرة؟ في الحقيقة، باشرت وزارة الداخلية والبلديات محاربة هذه الظاهرة، ولو متأخرةً نوعاً ما. ووفقاً لمصدر أمني في الوزارة لم يصرح باسمه، فإن «الوزير زياد بارود أصدر عدة تعميمات وعد بمتابعتها تفصيلياً».
وأبرزها «التعميم الـ112 الصادر في 21 آب المنصرم، الذي قضى بالتدقيق في ممارسة هذه الألعاب في محيط المطار على وجه الخصوص». لكن بعد جولة قامت بها «الأخبار» في المنطقة مثل عين الدلبة وتحويطة الغدير، تبين أن محيط المنطقة هناك، يعاني كثافة في استعمال المفرقعات.
وفي الحقيقة، إن الخشية الأساس هي في تحول الظاهرة إلى طقس دائم، وخصوصاً أنْ لا شيء يوحي بتقلصها. لكن القوى الأمنية لها رأي آخر، فقد رأى الرائد في مفرزة السير جوزيف مسّلة أن «الظاهرة في تراجع». ويؤكد مسلّة أن القوى الأمنية في حملة دائمة لوقفها. كما أشار إلى ملاحقة بعض التجاوزات، عبر تنفيذ عمليات المداهمة والتوقيف. وذكّر الرائد مسّلة «المواطنين بحقهم في التبليغ أو تقديم شكاوى عن أمور مشابهة». وستتحرك القوى الأمنية على الفور. إلا أنه لم ينفِ أن العادة تجّذرت في نفوس اللبنانيين ودخلت في صميم تقاليدهم الاجتماعية. أما سير العمليات، فيتجه في المسار الصحيح كما يقول: والمسألة ليست إلا «مسألة وقت فقط» حسب ما يؤكد بتفاؤل.


تعميمات الداخلية