ناهض حتر *وسط الأنباء المتلاحقة عن انهيار الرأسمالية الأميركية ـــ العالمية، يأتي خبر «مضاد»: شركة «آي بي إم» تحقق زيادة بنسبة 23 في المئة على أرباحها المتوقعة للربع الثالث من العام الأسود. الأرباح تحققت خارج الولايات المتحدة، في تأكيد ملموس على أن قطاع المعلوماتية ما يزال ديناميكياً وصاعداً. وهذه ليست أحجية. فالقطاع ذاك يستجيب لاحتياجات حقيقية ومعممة وتاريخية للمجتمعات حول العالم. هكذا سوف نلاحظ أن العائلات التي يمكنها الضغط على احتياجاتها الأخرى، حتى المعيشية، سوف تؤمن باقتناء حواسيب وبرمجيات ووسائل اتصال مطلوبة من أبنائها الملحاحين، صنّاع المستقبل. ولا تنجو الحكومات أيضاً من هذا الإلحاح.
في المقارنة بين قوتين صاعدتين، علينا أن نسجّل حقيقة أنّ مستقبل الهند التي ترتكز، كدينامو لاقتصادها، على قطاع المعلوماتية والاتصالات، ربما يكون أكثر قوة وإشراقاً من مستقبل الصين التي تعتمد على القطاع الصناعي التقليدي، مستعيدة مظاهر رأسمالية القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا: تعميم التلوّث والإفقار الجماهيري والبطالة وتدمير الريف. الهند ديموقراطية تقليدية، لكن المعلوماتية تطلق ألواناً عديدة من الدمقرطة المجتمعية فيها، بينما تزيد الصناعة التقليدية الاستبدادية السياسية والاجتماعية في الصين.
1ـــ لكن المفارقة الأساسية على مستوى الرأسمالية ككل، هي أن المعلوماتية، بسبب كونها ضرورة تقدمية، وكونها كذلك ديموقراطية بطبيعة عملها، بل بسبب الثورة التقنية غير المسبوقة في القطاع نفسه، سوف تمثّل في المستقبل القريب الضربة القاتلة للرأسمالية. ذلك أنّ التناقض بين إلحاحيّة القطاع التقنية وديموقراطيته وتقدميته، تتناقض بصورة تناحرية مع قواعد الرأسمالية العاملة: خلق الطلب الوهمي لتجاوز قانون ميل الربح للانخفاض، والأقلوية الاجتماعية للملكية الخاصة، والاستبدادية، واحتكار التقنية.
ومع الأفول الحتمي للسيطرة السياسية للرأسمالية الأميركية المنهارة، لن يعود بالإمكان احتكار تقنية هي، بطبيعتها، تميل نحو التعميم وتنمو به. كما أن الخطوة التقنية التالية في مجال الاتصالات، أي الحزمة المعلوماتية الشاملة اللاسلكية، سوف تجعل امتلاك الشبكات والشركات الكبيرة والاحتكار والخضوع لموازين القوى بين الدول الكبيرة والصغيرة أشياء من الماضي، وسوف تفتح المجال للأفراد والمؤسسات الصغيرة والتعاونيات للعمل الفرعي مع محور معلوماتي غير مقيد ولا يمكن امتلاكه أو السيطرة عليه.
2ـــ هل يمكن الاستغناء عن الصناعة التقليدية إذاً؟ صحيح أن المنتجات الصناعية الصينية هي موجودات حقيقية، بخلاف المنتجات المالية الأميركية الافتراضية، لكن هل يحتاج الصينيون والبشر حول العالم إلى كل ما تنتجه الصين من سلع تخلق الطلب ولا تستجيب فقط للاحتياجات الفعلية للمجتمعات؟ الصناعة الصينية التي تنتج مثلاً أربع قطع من الملابس لكل فرد في العالم، عدا عن كل تلك السلع الاستهلاكية التي سرعان ما تجد طريقها إلى المهملات، هي صناعة تنطلق من منظور رأسمالي ليبرالي متوحش، سوقها الأساسي مؤكد في الولايات المتحدة وفي الأسواق الحرة حول العالم.
دعونا ندقق في المعجزة الصينية، لكي نرى خلفياتها وآلياتها على حقيقتها، بوصفها ضفيرة من مفاهيم البورجوازية الغربية للقرن التاسع عشر (القومية الصلبة المؤسسة للمصالح الوطنية بوصفها مصالح اقتصادية أقلوية)، والماركسية المقلوبة (استعادة الأنموذج الرأسمالي المنقود في فكرة اللحاق)، واللينينية المفرطة (المركزية واللحاق بالتقدم الرأسمالي)، والليبرالية التاتشرية (حرية الرساميل والأسواق). كل تلك المفاهيم والممارسات اتضح فواتها في انفجار أزمة الرأسمالية الأميركية ـــ العالمية التي ما تزال في مراحلها الأولى.
يقول المرشح الديموقراطي باراك أوباما، إنّ الولايات المتحدة تقترض المال من الصين وتدفعه إلى دول الخليج (وسكت بالطبع عن عودة ذلك المال إلى جيوب النخب الرأسمالية الأميركية). وهذه الشبكة حقيقية وشاملة: لقد نشأ في العقدين الأخيرين أضخم تقسيم عالمي للعمل بين واشنطن وبكين. وهذا هو سر المعجزة الصينية. الصين تنمو أساساً من خلال تلبية الطلب الأميركي. وهي لذلك تحشد مواردها وتصنّع وتموّل الاستهلاك غير الواقعي في الولايات المتحدة، التي يستهلك شعبها أكثر مما ينتج، بينما تركّز الرأسمالية الأميركية على نهب العالم بالوسائل المالية. نحن نتحدث هنا عن تحالف رأسمالي معقد، يشهد بالطبع تناقضات داخلية بين طرفيه كالمعتاد، ولكنه، في النهاية، يشتغل على الأرضية نفسها.
حتى أموال الخزينة الأميركية المخصصة لإنقاذ النظام المصرفي الأميركي يأتي قسم كبير منها من أذونات الخزينة التي اشترتها وتشتريها الصين.
يفتح كل ذلك بالطبع احتمالات: الانهيار الثنائي، أو ـــ إذا تمكنت الصين من تجاوز الأزمة الرأسمالية العالمية ـــ السير في طريق السيطرة على الاقتصاد الأميركي، أو ربما العودة إلى الاشتراكية وقيمها، بما يعني تهدئة صناعة التصدير، والاستثمار في الاحتياجات الاجتماعية والبيئية في الداخل. وهذا الاحتمال الأخير يحتاج إلى الدمقرطة ويفتح أمامها الأبواب أيضاً.
الفكرة الأساسية التي يمكن استنتاجها هنا هي الآتية: لا مناص، من أجل بقاء البشرية، من حدوث حالة تطابق بين الاقتصاد والاحتياجات الاجتماعية الفعلية. وهو تطابق ينفي الرأسمالية، لكنه أيضاً ينفي ما نعرفه من اشتراكيات واقعية أو تصورية، تعمل في إطار مفهوم «التقدم» الملتبس (الرأسمالي ـــ الاشتراكي) نحو «نموذج» اقتصادي مفروض بلا نقاش، بل نحو أي نموذج غائي.
الغايات مدمّرة في الأخير لحياة الإنسان المحدودة، تلك التي تمثل الحق المطلق في تلبية الاحتياجات الفعلية في الـ«هنا والآن»، لا في أوهام الطلب الرأسمالي المختلَق، ولا في دراما مستقبل اشتراكي غير منظور، تولّد آلياتُ صنعه تلقائياً امتيازات واستبدادية وتضحيات لا يمكن تبريرها بأي هدف مهما كان «نبيلاً». فالنبيل حقاً هو تلبية وسائل العيش والسعادة والثقافة في حياة الإنسان الفرد القصيرة.
* صحافي وكاتب أردني