ظلت الضاحية الجنوبية لبيروت مكاناً يشارك الضواحي الأخرى إهمال الحكومات المتعاقبة، إلى أن سلّط الضوء عليها، معقلاً لـ«حزب الله». قد يخّيل للكثيرين أن المكان مرادف للحزب حصراً، لكن الواقع غير ذلك
أحمد محسن
بدأت لافتات الأحزاب العلمانية بالانتشار، أخيراً، في شوارع الضاحية الجنوبية. انتشار ظهر كأنه محاولة لاختراق سمة «الديني» الطاغية على صورة المكان هناك في ذهن الرأي العام. لكن الشكل الديني الظاهر، لا يعني أبداً أنّ جميع سكان الضاحية هم من المتدّينين بالضرورة، أو الملتزمين جميعاً عقائد الأحزاب الإسلامية. فهذه الصورة تسقط تدريجاً بمجرد الدخول إلى المنطقة. هناك، يسهل سماع الموسيقى «الدنيوية» القوية المنبعثة من داخل السيارات، أما في الأسواق كحي معوّض، فتسهل ملاحظة صرعات الموضة التي تغزو واجهات المحالّ، كذلك يمكن ملاحظة بعض الفتيات العابرات بملابس صيفية مكشوفة بين الحين والآخر. لكن هذه المظاهر لا «تكفي» الجميع للموافقة على أنّ الضاحية ليست مرادفاً لحزب الله، وخصوصاً أولئك الذين يتحدثون عن «قيود خفية».
الأنثى تتمتع «بحدٍّ مقبول من الحرية»، تقول رشا، وتردف: «لا يكفي أن تنحصر ذهنيّة المجتمعات في طول الملابس وعرضها، ثمة قضايا ينبغي إيلاؤها الأهمية المطلوبة». تعتقد رشا بوجود من يضيّق على الخارجين عن «سلطة الدين»، لكنها لا تستطيع أن تشرح الأمر، «أشعر به وحسب» تقول. هنا يحاول علي علامة أن يفسّر الموضوع بطريقة أوضح. علي من هواة السينما قبل اتخاذه قرار البدء بدراسة الإخراج، لكنه لا يجد في الضاحية داراً واحدة لعرض الأفلام، ولا مكتبةً عامة واحدة تخلو مما وصفه «بالصبغة الدينية».
«يمكنك أن تشاهد أي نوع من الأفلام في منزلك، حتى إنّك تستطيع أن تؤمّن بعض أفلام البورنو، ولن يزعجك أحد»، يقول علي ضاحكاً، ويردف «لكن ليس هناك سينما واحدة قريبة من منزلك أو في الضاحية كلها لعرض أفلام عادية». أما السينما التي افتتحت في بئر حسن، فهي «غير كافية، ولا تستوفي شروط السينما»، على حد تعبيره، «فالمكان معرّض للرقابة الدائمة من جهات حزبية نافذة»، ما يجعله أشبه «بمجّرد شاشة، تبثّ بعض الألوان».
تبدي وفاء نور الدين رضاها عن «الحياة الطبيعية والحرية المقبولة في الضاحية»، فهي تعزف البيانو، وتدرس رقص الباليه من دون أن تتعرّض لأي انتقاد لأفكارها أو سلوكها. كما تدلّنا إلى فِرق تعزف الموسيقى الغربية، و«الراب»، تحديداً «still black»، وأعضاؤها هم من سكان الضاحية أيضاً. فالذين ينتقدون هذه المنطقة، برأيها، يملكون خلفيات سياسية، أكثر منها اجتماعية. «لا دولة ولا قانون، هذا كل ما تتّهم به الضاحية»، تقول نور الدين، رافضةً «هذه النظرية»، لكن «حتى لو كان الاتهام صحيحاً، أين تكون مسؤولية الناس؟ فهم أهملتهم الدولة، وبالطبع سيلجأون إلى السياسة للتعويض عن اللادولة»، تجيب.
شباب الضاحية يختلفون أيضاً في السياسة، على ما ينعمون به من أمن نسبي. وهم يرفضون أن يُتّهَموا بالانعزالية، وخصوصاً بعدما تخلّى عنها جزء كبير منهم، واندمج في الصيغة اللبنانية المغمّسة بالفقر، والرغبة بالحياة، فيما فضّل جزء آخر أن يؤيد 14 آذار، أي الفريق الأقل شعبية في الضاحية، وهذا ما لا يعرفه الكثيرون من خارج الأوساط الملمّة بالديموغرافيا والسياسة: نعم يوجد مناصرون لـ14 آذار في حارة حريك!.
من جهة ثانية، يجب الاعتراف بأنّ الولاء للأحزاب الأكثر شعبية في الضاحية، قائم على السياسة، لا على الأيديولوجيا، وعلى ما يشاع أخيراً عن «ولاية الفقيه». ويمكن اعتبار حسن صالحاني نموذجاً من بين آلاف الشبان في الضاحية، الذين تنطبق عليهم هذه القاعدة، فهو يشرب الكحول، ويحب زيارة الملاهي الليلية حين يتسنى له ذلك، لكونه ورفاقه شبّاناً لديهم اهتماماتهم الخاصة. لكنّه مثلهم، لا يسمح بالمس بشخص السيد حسن نصر ألله، كما أنه يشارك في مسيرة العاشر من محّرم سنوياً، رغم «امتعاضه مما يؤمن به حزب الله وحركة أمل».
لكن معظم الشباب في الضاحية، حتى الذين يختلفون مع أنماط الحزبين في العيش، أو يمكن وصفهم بالأكثر تحرراً من أي ضوابط اجتماعية ممكنة، يجدون صعوبة حين تتداخل السياسة، بالحياة الاجتماعية، كما يقول أحد الشبان. فالحياة اليومية في الضاحية لا يتخلّلها الكثير من المفاجآت بالنسبة إلى شبابها، إذ إنّ جزءاً يسيراً منهم يقضي وقتاً طويلاً في الشارع، لتعذّر زيارة المقاهي بسبب غلاء المعيشة، وبسبب ارتفاع معدلات البطالة في البلاد عموماً، ما قد يفّسر انتماء أو مشاركة عدد كبير منهم في العمل الحزبي، لأنه دون ذلك، قد ينخرطون في «أمورٍ لا تحمد عقباها».
ترى النسبة الساحقة من الشبان أنّ الأحزاب السياسية في الضاحية الجنوبية ضرورة، ما يساعد هذه الأحزاب على تخطي مشاكلها الاجتماعية بسهولة، كما في باقي المناطق، إذ لا يمكن لوم أيّ من الأحزاب على حدة، وخصوصاً إذا كانت المشكلة في التركيبة من الأساس، فتصبح الضاحية كغيرها «منطقة مغلقة»، يصعب على أهلها معرفة الآخرين وأنماط عيشهم، حتى أولئك الذين يقطنون في أماكن أخرى قد لا تبعد كثيراً عن بيوتهم.


أين المسلحون؟

تذكر سينتيا رحمة كيف راحت تسأل بـ«براءة» خلال رحلتها الأولى داخل أزقة الضاحية الجنوبية لبيروت: «أين هم المسلّحون؟». ولما لم تجد أياً من هؤلاء، اعتقدت طوال الرحلة أنّها ما زالت داخل ما يسمى «المنطقة الشرقية»، إلى أن قال لها صديقها: «هذه هي الضاحية»، وهو يشير بيده إلى أحد أعمدة الكهرباء، حيث يستقر علم عملاق لـ«حزب الله».