أثارت المقابلة الأخيرة للنائب وليد جنبلاط على محطة تلفزيون «الجديد» تساؤلات عديدة. لكنّ تلك المقابلة، على أهميتها، لا تعكس تغييراً حقيقياً في مواقف رئيس اللقاء الديموقراطي. هنا تعليق على تلك المقابلة وشؤون سياسيّة أخرى
أسعد أبو خليل*
لم تكن مقابلة وليد جنبلاط على شاشة «الجديد» مُستغربة أو مُفاجئة. والمُضيف، جورج صليبي، ينتمي إلى صنف نادر من الصحافيّين في حقبة ما بعد اغتيال الحريري. فهناك قلّة منهم لا تستطيع أن تتبيّن أهواءهم وانتماءاتهم السياسيّة: مثل سعيد غريّب، وسمر أبو خليل ومالك الشريف، ونانسي السبع. أمّا نديم قطيش: فهو موضوعي بمقياس الوهابيّة الإعلاميّة. إذ إنه كان موضوعيّاً وحياديّاً في محطة «الحرة» الغابرة، واستمرّ في الموضوعيّة والحياديّة في محطة آل الحريري، حتى عندما رأى أخيراً أن استقبال الملك السعودي لأحمد الأسعد مثّل حدثاً تاريخيّاً يمكن أن يشابه في أهميّته غياب المهدي المنتظر، أو تجوال باسم السبع على طائرة الحريري الخاصّة، أو اكتشاف رامي عليق لحب الحياة. لكن جنبلاط أراد في المقابلة المذكورة أن يبعث أكثر من رسالة على أبواب انتخابات جديدة: إنه على وشك إماطة غشاوة جديدة أثقلت ناظريْه. ولا يستطيع أي سياسي لا يتمتّع بتأييد طائفي حديدي مضمون مثله أن يتقلّب ويتبدّل مثل جنبلاط. والتقلّب الذي حكم مسيرته السياسيّة لا يعتمد فقط على هذا التراصّ الطائفي الإقطاعي الحديدي الذي يحميه انتخابيّاً وسياسيّاً في الملمّات، بل على طراز فريد ومتطرّف من عدم المبدئيّة الخالصة. وقال المعلّق الأميركي اليميني جورج ويل مرّة إن جورج بوش (الأب) هو أكثر السياسيّين انعداماً للمبدئيّة، ويمكن القول إن جنبلاط هو نموذجنا اللبناني لسياسيّ ينعدم عنده أي نوع من الالتزام المبدئي والعقائدي والأيديولوجي، ما يوقع حلفاءه وخصومه في حيرة وفي تأهّب في انتظار مقابلاته وتصريحاته، لأنّهم لا يعلمون إذا كان سيصدح عروبيّاً أو انعزاليّاً في لحظة الظهور.
قد يقول قائل (أو قائلة) إن التغيير سمة من سمات العمل السياسي أو من النضوج الفكري، لكن التغيير أو التطوّر، مثل تطوّر كمال جنبلاط من الانعزاليّة اللبنانيّة ومن الحياديّة نحو العدوان الثلاثي على مصر الذي أدى إلى انشقاق واستقالات في صفوف الحزب التقدمي الاشتراكي، إلى العروبة والالتزام بالأمميّة الاشتراكيّة، وهي غير الاشتراكيّة الدوليّة الحاليّة التي ليست بأكثر من الذراع الخارجية لحزب العمل الإسرائيلي، وهذا ما يفسّر كيف أن جنبلاط تلقّى تقريعاً من قيادة الاشتراكيّة الدوليّة (المفتونة برفيق وسعد الحريري لأسباب لا علاقة لها بالاشتراكيّة أو بالأمميّة) لأنه حضر حفل تكريم لسمير القنطار.
وقد يضيف قائل (أو قائلة) إن التغيير حيوي ودليل ديكارتي أيضاً. لكن هذا لا ينطبق على رجال الإعلام والسياسة في لبنان، حيث يبدّل الواحد منهم موقفَه بعد لقاء قصير مع الأمير خالد بن سلطان أو مع نادر الحريري، والاثنان لا صلة لهما بديكارت على ما نظن. أي إن التغيير لا يحدث بناءً على تأملات فكريّة وسهر الليالي، بل بناءً على تلقّي (أو تلقّف) الحقيبة، وهكذا تغيّر وليد أبو ظهر وفؤاد مطر بين ليلة وضحاها من تأييد صدّام إلى شتمه. أي إن تغيير الموقف رأساً على عقب بناءً على وظيفة جديدة أو وعود بنيابة أو وزارة (أو رئاسة في حالة شارل رزق) يبقى مشبوهاً في توقيته، إلا إذا صدّقنا أن رفيق الحريري كان لديه من وسائل الإقناع المنطقي ومن قوة الحجّة ما دفع بعدد هائل من المثقفين والكتّاب لنبذ عقائدهم بعد لقاء وجيز، وهذا ممكن الحدوث، ولا علاقة لحدوثه بثروة الحريري.
والطريف في متابعة موقف، أو مواقف، وليد جنبلاط، هو في محاولة نوّابه ووزرائِه التكيّف واللحاق بما يستجدّ من تقلّبات في مواقفه. تجدهم في حيرة من أمرهم. ترى مثلا أكرم شهيّب، المشهور بالمهارة في عقد شال ثورة الأرز حول عنقِه، بالإضافة إلى إتقان فائق للخطاب البعثي السوري لمدة تزيد عن ثلاثة عقود، يهجو نبيه برّي في يوم، ليعود ويمدحه في اليوم التالي عندما يلاحظ أن البيك الجنبلاطي غيّر موقفه من برّي. تجدهم يصعّدون ثمّ يلينون في الأسبوع الواحد بناءً على تغيّرات واستدراكات (وتوضيحات من مفوضيّة الإعلام في الحزب الجنبلاطي) في موقف جنبلاط.
والطبقة السياسية في لبنان مملّة للغاية، إلى درجة أن جنبلاط يُعدّ بالمقياس العام نجماً ساطعاً. وحبة البطاطا نجمة بالمقارنة، مثلاً، مع سعد الحريري أو مع أمين الجميّل. من يستطيع مثلاً أن يستمع إلى مقابلة كاملة مع فارس سعيد أو مع عباس الهاشم أو طلال الساحلي أو تنظيرات مصطفى علّوش، الذي أبدى استعداداً (جدّ متواضع) لتعليم الناس أصول المقاومة؟ بناءً على ذلك، تمثّل الإطلالات الإعلاميّة لوليد جنبلاط تغييراً منعشاً بعض الشيء في النمط الأقلّ من عادي لإطلالات أهل السياسة في لبنان. وعندما يستدير جنبلاط، يستدير معه باضطراب ظاهر أحياناً شهيّب والآخرون، وعندما يستدير مرة أخرى، يستديرون معه أيضا، وهكذا دواليك، إلى أن تزول الغشاوات، الواحدة تلو الأخرى.
وظهور جنبلاط، وحديثه عن التعديل في موقفه، يشير أول ما يشير إلى انقشاع الغشاوة عن ناظريْه، مرة أخرى. أي إن جنبلاط، الذي استطاع بقدرة آل الحريري وإليوت إبرامز إزاحة الغشاوة عن عينيْه في عام 2005، بعد أن عانى من تلك الغشاوة لثلاثة عقود أو أقلّ بقليل، عاد ليعاني من غشاوة، من نوع آخر. وها هو «البيك» الذي يحرص أولاً على «العشيرة» ـــ كما أعلمنا أكرم شهيّب الخبير البيئي ـــ يكتشف أنه نسي على امتداد ثلاث سنوات أن يتذكّر فلسطين والعروبة. كان منشغلاً بالسيادة، كما قال. وهو اعترف بأنه لم يكتشف حب السيادة لمدة ثلاثين سنة، ولم يقع على مقالة لكمال جنبلاط عن اللبنانيّة، وذلك لأنه كان مشغولاً بقراءة بيانات التسلّح في تلك الحقبة. لكن من المؤسف أننا بعد أن فرحنا وبعد أن هلّلنا لتحرّر عيون جنبلاط من الغشاوة في عام 2005، عاد ليعاني من تلك الغشاوة اللعينة مرة أخرى. غشاوة فوق غشاوة فوق غشاوة، ولا من طبيب مداوٍ. ويجب هنا التنّبه إلى مضاعفات الغشاوة. إذ إنه من المحتمل أن يكون جنبلاط، في تذكّره المفاجئ لفلسطين والعروبة، قد وقع أسير غشاوة مضادة للانعزاليّة اللبنانيّة التي أزالت عن ناظريْه غشاوة الحقبة البعثيّة عندما كان يطالب بوجود عسكري سوري دائم على غرار القواعد العسكرية الأميركية في ألمانيا (وكان يقول يومها إنه من «جنود صلاح الدين وكمال جنبلاط وحافظ الأسد وجمال عبد الناصر» ـــ يُراجع النص في كتاب «وليد جنبلاط القائد والرمز» لعمر عارف حمادة). وتسلسل الغشاوات يمكن أن يصيب أي شخص بالدوار والحيرة، وأن يقضي على مستقبله السياسي وعلى مصداقيّته الشرعيّة، إلا في حالة جنبلاط، وهذا يعود إلى التأييد الكبير لزعامته الطائفيّة ـــ الإقطاعيّة، بالإضافة إلى تقديم الإعلام اللبناني المطواع تسويغاً متكرّراً لاستداراته: من نوع أنه «يتمتّع بحاسة شم استراتيجيّة» أو انه «يحسن قراءة الوضع الإقليمي»، إلى ما هنالك من خزعبلات.

تقلّبات وليد جنبلاط وأشياء أخرى

وكان طريفاً كيف ذكر جنبلاط موقف الإدارة الأميركية من مسألة دعم الديموقراطيّة في العالم العربي. وهو استشهد (مُوافقاً) بخطاب كانت كوندوليزا رايس (أو «كوندي» كما يحرص جنبلاط على تسميتها تحبّباً، كما كان المرشح الرئاسي الهزلي شبلي الملاط يشير إلى بول وولفويتز بـ«الصديق» لأنه صافحه مرّة أو مرتيْن وأثقل عليه لاحقاً بالرسائل الإلكترونيّة) قد ألقته في القاهرة، واعترفت فيه بتاريخ (أو فيلم) أميركي طويل من دعم الديكتاتوريات في العالم العربي. وزاد جنبلاط في إشارته أن الأنظمة الديكتاتوريّة في العالم العربي التي عنتها رايس في خطابها هي التي تُسمّى «تقدّمية». أولاً، إن الأنظمة المُسمّاة تقدميّة هي الأنظمة عينها التي تحالف معها جنبلاط ولعقود، وكان يغدق المديح عليها وعلى حكّامها المُتسلِّطين. ثانياً، لا، يا مُحبّ الحياة والمُعتذر لإدارة بوش عن خطاياه وآثامه الماضية. إن إشارة الرفيقة «كوندي» كانت تتعلّق أكثر بالأنظمة الديكتاتوريّة التي تُسمّى عندنا بـ«الرجعية»، أي الأنظمة اليمينيّة المتحالفة لعقود مع الإدارة الأميركية، لا ما يُسمى اعتباطاً بالأنظمة التقدميّة التي كانت متحالفة مع الاتحاد السوفياتي، وإن كان بعضها تحالف مع الاثنين معاً، مثل صدّام حسين ومعمّر القذافي ومحمد سياد بري. لكن جنبلاط الجديد (وهو يتجدّد باستمرار مثل مساحيق الغسيل)، لم يكن يريد أن يشير نقداً إلى حلفه الجديد مع الأنظمة الرجعيّة، وهذا يفسّر لماذا تطرّق في الفقرة نفسها إلى حليفه الملك السعودي، الذي لا يشير له إلا بلقب «الفارس الكبير»، أو بلقب «الرجل الرجل». لا ندري ماهية تعريف جنبلاط للفروسية والرجولة، لكن يبدو أن تعريفات جنبلاط غير ثابتة، بل خاضعة للتغيير المُستمرّ. هل التعريفات والمعايير مثلاً مرتبطة بإغداق أكياس الذهب والفضة (يُراجع ما رواه الياس الهراوي عن علاقة جنبلاط بالنظام الليبي في كتاب حوارات غسان شربل)، أم إنها مرتبطة بعناصر ومتطلّبات الحلف الأميركي ـــ الإسرائيلي ـــ السعودي؟ ثم إذا كانت الإدارة الأميركيّة اعترفت بضبابيّة عرضيّة بالطبيعة التسلّطيّة لحلفائها العرب عبر العقود، فلماذا يجد جنبلاط هذا الحرج في الاعتراف بالبديهيّات؟ هل يريدنا جنبلاط أن نعتقد معه أن الحرية مشرقة في كل العالم العربي إلا في سوريا؟ أم إن حزنَه على وفاة الأمير فواز بن عبد العزيز أحرج أحكامه وأخلّ بميزانها؟
وإشارة جنبلاط إلى الديموقراطيّة (أو غيابها) في العالم العربي، تمثّل مفارقة فاقعة، وهي تصيبه هو كما تصيب كل أدعياء الليبراليّة الوهابيّة في العالم العربي (مثل جمال خاشقجي الذي يُعرّف عن نفسه بأنه ليبرالي وإن كان قد أعلن في جريدة الأمير خالد الفيصل قبل أشهر «نحن سلفيّون»). هل هناك من يبتدع هذا النسق الفريد من شعارات عامّة عن الحريّة الفرديّة والولاء المطلق للملكة الوهّابيّة إلا غلاة الأبواق الوهّابية أنفسهم؟ وجنبلاط لا يجد سجوناً في العالم العربي ولا يجد قمعاً، إلا في سوريا. وهو يجزم بأن ميشيل كيلو هو السجين السياسي الوحيد في العالم العربي. أما الأردن والعراق وتونس ومصر وعمان والكويت والسعودية والمغرب ودولة الإمارات، فلا يجد جنبلاط فيها إلا الحب والسلام والوئام والعدل والتنوّع. إذ يبدو مفتوناً بالتنوّع أخيراً. فوفق معادلة جنبلاط، فإن الجَوْر والقمع ينتفي في العالم العربي بمجرّد أن تتحرّر سوريا من حكم البعث (ويسعى حلفاء السعودية للإتيان برفعت الأسد والإخوان المسلمين إلى الحكم، والفريقان ـــ وفق معادلة أولياء 14آذار ـــ يمثّلان النموذج الديموقراطي الأمثل في الحكم). طبعاً، القمع والظلم سائدان في كل العالم العربي وفي الشرق الأوسط (باستثناء قبرص)، في أنظمة المحور السعودي ـــ الإسرائيلي أو في أنظمة (أو نظاميْ) المحور السوري ـــ الإيراني. وهذا التعطّش الذي يبديه جنبلاط نحو الديموقراطية لا يجد المرء أثراً له لا في ممارساته ولا في إدارته الإقطاعيّة لحزبه الموقر. وهو يتحدث عن خلافة تيمور له في قيادة الحزب (وقيادة الطائفة، إذ إن الحزب والطائفة صنوان في مفهوم الفرع اللبناني للاشتراكيّة الدوليّة. كم هي حنونة علينا هذه الاشتراكيّة الدوليّة التي عبّرت عن أهوائها اليساريّة الحقّة في تفجّعها الذي لم ينتهِ على رفيق الحريري، الزعيم اليساري المعروف ذي الأيادي الاشتراكيّة البيضاء على لبنان، وفي تبنّيها لحروب الصهيونيّة).
ومفاد كلام جنبلاط العام، والعام جداً وغير المكلف البتّة من ناحية حلفه مع إليوت إبرامز وديك تشيني وآل سعود، أنه تذكّر أن يتذكّر فلسطين والعروبة. لكن التمحيص في كلام جنبلاط يؤكّد أنه لم يأت بجديد على الإطلاق، وأنه لم يكوّع في الحقيقة خلافاً لتمنيّات حزب الله الذي يتعامل مع وليد جنبلاط وكأنه على وشك أن يهتدي من جديد في أي لحظة. وما معنى كلام جنبلاط العام عن فلسطين: فحتى بوش يتحدّث عن فلسطين ويقول إنه يحب فلسطينياً واحداً (محمد دحلان الذي يشير إليه بعبارة «غلامي»). وفلسطين التي عنّت على بال جنبلاط هي فلسطين محمد دحلان، وهذا ظاهر في الإشارة المتكرّرة لجنبلاط عن «السلطة الفلسطينيّة» حتى يفهم من يفهم أنه لا يزال جزءاً من الحلف الأميركي ـــ السعودي (جزءاً صغيراً جداً طبعاً بالرغم من أوهام مفوضيّة الإعلام في الحزب التقدمي والاشتراكي، إياك أن تنسى الصفتيْن). ومرَّ مرور الكرام تفريط جنبلاط (العابر) بحق العودة في المقابلة المذكورة، لا بل إنه أبدى تفهّماً للمخاوف «الديموغرافية» للإسرائيليّين. أراد جنبلاط أن يمطمئنهم، وتحدّث عن قبول شكلي فقط بـ«مبدأ» حق العودة، وهو موقف الصهاينة في محادثات كمب ديفيد في إدارة كلينتون. ما هذا التوارد للخواطر بين جنبلاط ومحمد دحلان؟ إنها الصدفة، لا ريب. وجنبلاط يريد أن يحظى بجائزة قوميّة لموقفه المتجدّد عن فلسطين، فقط لأنه يؤيّد إنشاء دويلة دحلانيّة على أقل من 80% من 23% من فلسطين التاريخيّة. أي إن موقف جنبلاط غير بعيد أبداً حتى في الموضوع الفلسطيني عن موقف إدارة بوش، وإن كان يؤيّد (بتهذيب شديد وتردّد واضح خشية جرح مشاعر إليوت إبرامز) التفاوض مع حماس، ويزيد أنه دعا الإدارة إلى الاعتراف بفوز حماس في الانتخابات الاشتراعيّة، وكأن الإدارة الأميركية تستدعيه إلى واشنطن لتلقّي النصح والمشورة منه عن السياسة الأميركية الخارجيّة. لكن يبدو أن جنبلاط سيُثير موضوعيْ فلسطين والعروبة في اجتماعاته المستقبليّة مع إليوت إبرامز وديك تشيني وهنري كيسنجر. والعروبة همّ كبير لديك تشيني كما هو معروف.
وحديث جنبلاط عن العروبة هو حديث عام، ويدخل في إطار الكلام الفضفاض الذي يصدر عن الإعلام السعودي من أجل تعزيز دور المملكة الوهابيّة. لكن وزير جنبلاط الجديد، وائل أبو فاعور، عاد وأوضح أن جنبلاط يقصد بكلامه «العروبة الديموقراطيّة» ضد «الرجعيّة العربية». طبعاً يُقصد بـ«الرجعية العربية» النظام السوري. ولكن كل الأنظمة العربيّة، من دون استثناء، تستحقّ صفة الرجعيّة. أي إن العروبة الديموقراطيّة في وصفة جنبلاط الجديدة تتمثّل في النظام السعودي الوهابي (وهو تقدّمي وفق تصنيف وائل أبو فاعور)، حيث لا تتعارض ثقافة قطع الرؤوس في الساحات العامة ورجم العشّاق والمحبّين وبثّ التزمت الديني والأخلاقي مع الديموقراطيّة والليبراليّة التي يدعو حازم صاغيّة إليها في صحيفة خالد بن سلطان (الحريص على الحريّة الفرديّة). على العكس، فإن جنبلاط يفتي بأن ثقافة الوهابيّة السعودية هي المثال المُحتذى، وعليه، هو يصف الملك السعودي بـ«الفارس الكبير». وعروبة جنبلاط رياضيّة وليّنة، وهي دائماً تتّفق مع النظام العربي الراعي له، كائناً من كان. ففي أيام حلفه مع النظام السوري (على امتداد عقود ثلاثة أو أقل بقليل) كانت عروبته بعثيّة، وكانت الرجعيّة بالنسبة له تتمثّل بالنظام السعودي والأنظمة العربية الأخرى المتحالفة مع أميركا. واليوم، أصحبت عروبة جنبلاط وهابيّة سعوديّة، ويمكن أن تتغيّر من جديد وفق تحالفات جنبلاط ذات الليونة الأيديولوجيّة والثبات المالي.
وفي الموضوع العراقي، تبرز أهواء جنبلاط الحقيقيّة. فهو يحرص في كلامه في الموضوع العراقي على البقاء في دائرة الحوار والسجال الأميركي، متحدثاً عن «أخطاء» فقط، عازياً العنف هناك إلى المحور السوري ـــ الإيراني الذي ينغّص ـــ وفق رؤية جنبلاط ـــ على الاحتلال احتلالَه. ويبدي جنبلاط إعجاباً شديداً بقلب نظام صدّام، لكنه لا يشرح لنا قسوة اعتراضِه على قلب نظام صدام قبل اغتيال الحريري. لا يفسّر لنا جنبلاط سبب تأييده لمقاومة الاحتلال (وحتى «تفهّمه» لإرهاب الزرقاوي) قبل ثلاث سنوات فقط. ما عدا ما بدا حتى تغيّرت المقاييس؟ لا من يسأل ولا من يجيب. ويعترف جنبلاط بأنه خلال تخلّصه من غشاوة معارضة الاحتلال وتبنّي مشروع الاحتلال، دعا الإدارة الأميركية إلى شن حرب ضد النظام في سوريا. واعترفَ بأنه دعا الصحافي الأميركي ديفيد إغناطيوس (صديق بول وولفويتز الذي كان يجمعه مع عرب موثوقين) إلى تكرار اجتياح العراق في سوريا. واضح أن جنبلاط لا يفهم طبيعة الإعلام في أميركا إلى درجة تجعله يظن أن علاقته بإغناطيوس كافية لأن تجعله مؤثراً على سلطة القرار في أميركا، وكأن إغناطيوس هو فارس خشان الإدارة الأميركية. لكن هذه حال حلفاء أميركا الصغار في لبنان عبر العقود: من كميل شمعون إلى أمين الجميل إلى وليد جنبلاط ونايلة معوّض: يظنون أن بمستطاعهم تغيير وجهة السياسة الأميركية لمصلحتهم.
ولم ينسَ جنبلاط الحديث عن البيئة، والكل في لبنان اليوم يحبّون البيئة، كما يحبّون الحياة. وموقع سليمان فرنجية على الإنترنت يذكر أن الصيد والحفاظ على البيئة هما من هوايات الوزير السابق. وكم هو سمج هذا المجتمع في مسخ الوطن عندما يستورد قضايا بنسقِها الباهت والمحافظ إلى لبنان. وعندما ترى دعايات محطة القوات اللبنانية ضد السرعة في القيادة مثلاً، تشعر برغبة جامحة في قيادة سيارتك مخموراً، وعندما تشاهد تلك الإعلانات الشوفينيّة عن معنى أن تكون لبنانياً، تشعر برغبة جامحة في إحراق أرز «الرب»، وعندما تشاهدهم يحدثونك عن النظافة، تشعر برغبة في إفراغ دلو من الماء الآسن فوق رؤوسِهم. وأهل السياسة في لبنان يلهجون بحمد البيئة، لكن من منظور فارغ وخال من المضمون الاقتصادي. لا يعلمون أن الحرص على البيئة يتضارب مع سياسات الحريري الاقتصادية، ومع فتح أذرع لبنان وسيقانه أمام الشركات المتعددة الجنسية. وحتى فتح لبنان أمام قوات الأمم المتحدة (في البرّ وفي البحر) يضرّ بالبئية هو الآخر.
لكن الإعلام في لبنان الذي لا يفوّت فرصة لإبراز تصريحات جنبلاط، تجاهل على غير عادته المقابلة مع جنبلاط، أو دفنها في الصفحات الداخلية، كما فعلت نشرة آل الحريري. وهناك ما يشغل الإعلام اللبناني على أي حال. فمؤتمر الملك السعودي في مدريد مثّل مناسبة للجميع للقول إن التزمّت الوهابي السعودي هو المثال الأفضل للتعايش والتنوع الديني والثقافي، وأضافوا أن مهرجان الجنادريّة الذكوري مثّلَ ذروة الحضارة. وعمر حرقوص (يساري سابق وقيادي بارز في نشرة آل الحريري وفي تنظيم الياس زهرا، حيث كل فرد هو مسؤول مناطقي لقلّة الأعضاء) عثرَ على دلائل عن خوض الجيش اللبناني مقاومات عنيفة وضارية ضد إسرائيل منذ 1948 حتى اليوم. لم نكن ندري بذلك، وكتب التاريخ (بالإضافة إلى آل الحريري) تدين اليوم بالكثير لحرقوص لاكتشافه التأريخي. وإذا كان الجيش اللبناني يقوم بمهمات المقاومة ضد إسرائيل، فعلامَ قامت التظاهرات في الستينيات والسبعينيات للدفاع عن الجنوب؟ ولمَ نشأت مقاومات في لبنان إذا كان الجيش يقوم بالواجب وأكثر؟ طبعاً، نحن نذكر أن جيش جوني عبدو كان ينسّق مع الجيش الإسرائيلي أثناء قصفه بيروت في عام 1982، ولعلّ هذا ما عناه حرقوص بالمقاومة، فاقتضى التوضيح. وشارل رزق (الذي وقع أسير خديعة من 14 آذار عبر دغدغة طموحاته الرئاسيّة، فجذبته إلى صفّها بعد أن كان عُيّن في أعلى المناصب من «صديقه» إميل لحود، وبلغت طموحاته الرئاسية درجة زعم معها أن بشير الجميل كان صديقه، مع أن الجميّل خطفه في صندوق سيارة وأهانه وهدّده على ما روى هو لي في «أوتوا» ذات مساء في عام 1993) خرج من زيارة لبطريرك الموارنة مُعَزّزاً بجرعة إضافيّة من الشحن الطائفي، إذ قال على باب بكركي إن «المجتمع المسيحي» في لبنان يتميّز (عن غيره من «المجتمعات» في لبنان) بـ«التفوق الحضاري». نسي رزق أن شخصه الكريم يدحض النظريّة من أساسها). وأضاف رزق أن التفوّق الحضاري الذي عناه برز أكثر ما برز عندما استُدعي إلى المجلس الحربي في صندوق السيّارة. والجدال حول المقاومة وحول حق المقاومة حسمه يساري سابق في نشرة آل الحريري: فهو أفتى بأنه ليس من قانون دولي يعطي لأي شعب حق الدفاع عن الأرض بوجه العدوان، وأضاف أن القانون الدولي يلحظ حق إسرائيل في العدوان والاجتياح والاحتلال. ومحطة العربية تشير إلى عدوان تموز باسم «حرب إسرائيل على حزب الله»، أي إن آل سعود يقدّرون لآل صهيون تجنيب لبنان أي أضرار، والتركيز على حزب الله. وحازم الأمين لا يرى ظلماً يفوق الظلم الذي لحق بالسنيورة الذي تعرّض للتخوين، فقط لأنه أراد الضغط على الأميركيّين من أجل تحرير مزارع شبعا، وفق الرواية الرسميّة لحازم الأمين. طبعاً، الأمين محق في أن فريق المعارضة السابقة وقع في نفاق لصمته عن المفاوضات السورية ـــ الإسرائيلية، وعن تلك الجولة الذليلة للوفد السوري الثلاثي في واشنطن، والذي استجدى عطفاً من اللوبي الإسرائيلي. أما وزير السياحة الجديد، فدعا المغتربين إلى العودة، وذلك من أجل «طرد الغرباء» منه. لكن تجارب تاريخ لبنان الحديث تدلّ على أن الأطراف التي ترفع شعار طرد «الغريب» تنتهي بطرد لبنانيّين آخرين.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)