لا تسمح الظروف المادية الصعبة لعدد كبير من التلامذة بمتابعة حياتهم كأطفال عاديين، فسوق العمل يستقبلهم بلا رحمة إلى جانب مقاعد الدراسة
أحمد محسن

ينتظر علي (12 عاماً) انتهاء صفوفه الدراسية، ليباشر عمله اليومي. فهو يقود دراجة نارية لإيصال النراجيل إلى الزبائن. يرمي حقيبة الكتب على الطاولة، ويتناول الغداء بطريقة غير منتظمة، كما تشكو أم علي. لكنّ علي يذكّرها دائماً بنجاحه في الامتحانات، ويؤكد حصوله على «متسعٍ من الوقت للدراسة». يقتصر مدخول علي على «البقشيش» الذي يتركه الزبائن، ويأمل زيادة مدخوله في الصيف مع توافد المغتربين الذين يتركون «بقشيشاً» مناسباً، «لكونهم محترمين وخواجات».
يرغب علي في أن يصبح مهندس طيران، فيمضي وقتاً طويلاً في مراقبة الطائرات التي تمر بين الحين والآخر، بالقرب من المحل الذي يعمل فيه في تحويطة الغدير. لا يخاف علي من تأثير عمله على مستقبله الأكاديمي، فهو يعرف كيف يختار الوقت المناسب للدراسة.
في المقابل، لا يأبه محمد (13 عاماً) الذي يعمل في محل للبقالة بالدراسة كثيراً، لا يعدّها مهمة ما دام يعمل منذ الآن، كما أنه يعترف برسوبه في أكثر من فصل، لولا تداركه الأمور في اللحظة الأخيرة. يرى محمد أنّ العمل في الشتاء سهل، لأنه بعد الظهر فقط، إضافة إلى تراجع علاقته مع زملائه في الصيف، لا يستطيع الذهاب معهم إلى البحر لارتباطه بدوام العمل، كما لا تتسنى له مشاركتهم لعب كرة القدم لأنه غالباً ما يعود متعباً. يشتاق محمد إلى أصدقائه و«أجواء المدرسة» بيد أن «شخصية العامل» طغت على شخصيته منذ الصغر، فلا يشتاق إلى الكتب «أكره الرياضيات والتاريخ والمواد كلها»، فقد اعتاد محمد التعامل اليومي مع الناس بأمورٍ لا تمت بصلة إلى المواد التي يدرسها.
محمد ليس حالة فريدة في كرهه للمواد الدراسية، إذ يشاركه خضر دكدوك هذه التساؤلات، التي أصبحت محور حياته بعد إنهائه مرحلة الشهادة المتوسطة. أخذ خضر يفكّر جدياً في مغادرة المدرسة منذ أن بدأ يعمل في إصلاح المكيّفات، حيث صار يعدّ الدراسة «مضيعة وقت». تعدت نتائج عمالة خضر المبكرة التعب الجسدي لتطال نظرته إلى المستقبل، فتراه يسخر من النصائح التي يتلقاها عن إمكان دراسة الميكانيك في الجامعة لاحقاً، يبتسم بهدوء ويسأل «من يعتني بأبويّ؟». خضر أصبح رجلاً قبل أوانه وهو راضٍ عن ذلك، «الفقر ليس عيباً، العيب هو الجلوس في المنزل»، يقول بثقة.
لكن بعض هؤلاء الأطفال يتألم من العمل بالفعل، ويتمنّى لو كان بالإمكان قضاء الصيف للراحة، من دون أن يكون استكمالاً لمسيرة عمل مضنية طوال العام. جواد أحد هؤلاء الأطفال، أبوه يصرّ على تعليمه «المصلحة»، لذلك يعمل في الصيف منذ الصباح الباكر في محلٍ للحلويات في مدينة النبطية. يحب جواد السياسة ويتمنى أن ينهي أعوامه الثلاثة الباقية في المدرسة، كي يلتحق بكلية الحقوق والعلوم السياسية، وينجو من «كابوس الحلويات» الذي لاحقه منذ طفولته، و«أفسد رغبته في النوم حتى وقت متأخّر».
لا يقتصر العمل إلى جانب الدراسة على الذكور فقط، فمحالّ الملابس والتعاونيات الاستهلاكية تغصّ بالفتيات اللواتي يشاركن زملاءهن العمل في الصيف. «أتسلّى وأضيع الوقت»، تقول بتول، التلميذة في الثامن أساسي، التي تعمل في محل للزهور يخص خالتها، طوال أشهر الصيف. بتول سعيدة بما تقوم به، و«تشكر الله» لأنّها محظوظة، فهي تعمل فقط في الصيف فيما يعمل كثيرون في الشتاء والصيف.
حالات التلامذة الذين يعملون ويدرسون لا تنسينا الأطفال الذين تركوا المدرسة نهائياً. يعمل هؤلاء في الفصلين معاً، وقد أصبحت المدرسة مجرد اسم في ذاكرتهم، والفصول مجرد محطات متنوّعة للمعاناة.