strong>تزدحم الملفات العالقة أمام الهيئة الوحيدة في محكمة الجنايات ببيروت، لتصل إلى أكثر من 800 قضية. وبانتظار أن تضيف التشكيلات القضائية هيئة ثانية تقتسم العبء وتسرّع في إصدار الأحكام، تبدو صيانة المحكمة بحاجة إلى حكومة ووزير عدل يؤمنان بأن «العدل أساس الملك»
حسن عليق
كيف يمكن محكمة واحدة أن تنظر في 820 قضية موضوعة دفعة واحدة بين يديها؟ عملية حسابية بسيطة تشير إلى أن هذه المحكمة ستحتاج إلى أكثر من 18 شهراً لبتّ هذه القضايا، هذا إذا احتُسِب أنها قادرة على بت نحو 45 قضية شهرياً، وهو العدد الأكبر من الأحكام الذي أصدرته خلال واحد من الأشهر الستة الماضية. إلا أن المشكلة تكمن في أن المحكمة ذاتها تتلقّى شهرياً عدداً من الدعاوى الجديدة يكاد يكون مُطابِقاً لما تبتّه، مما يعني أن سجلاتها ستبقى تعاني «عجزاً» تزيد قيمته على 800 قضية دائماً.
المحكمة المذكورة هي محكمة الجنايات في بيروت. وهي تتألف من هيئة واحدة. قبل التشكيلات القضائية التي صدرت عام 2002، كانت المحكمة مؤلفة من ثلاث هيئات، مما يعني أن إنتاجها كان على الأقل ثلاثة أضعاف إنتاجها الحالي.
الهيئة الحالية للمحكمة مؤلفة من القاضية الرئيسة هيلانة اسكندر والمستشارَين غادة أبو كروم وحارس الياس. تنعقد الجلسات ثلاثة أيام أسبوعياً، ولأكثر من سبع ساعات في اليوم، في ظروف أقل ما يُقال فيها إنها ظالمة لمن يحملون ميزان العدالة وسيفها، ولمن يقصدون القضاء طلباً لتحقيق العدالة. فَقاعات المحكمة غير مجهزة بنظام تبريد يقي من يعملون فيها، ويتردّدون إليها، الحر والرطوبة. والإنارة ضعيفة وقِطَع السقف المستعار تتساقط يوماً بعد يوم، كتساقط قطرات الماء شتاءً من سقف القاعة.
قضاة المحكمة، وبعد انتهائهم من عقد جلساتهم، يدخلون مكاتبهم للمذاكرة ودراسة الملفات لنحو ساعتين على الأقل. أما الأيام الأربعة الباقية من الأسبوع فلا تفارقهم الملفات فيها، وهم مضطرون إلى دراسة قضاياهم في منازلهم. ويقول معنيون بشؤون قصر العدل في بيروت إن الحياة الاجتماعية للقضاة قد «ماتت» منذ بدء عملهم في محكمة الجنايات، مؤكّدين أن الرئيس السابق للمحكمة القاضي ميشال أبو عراج كثيراً ما اشتكى من زحمة الملفات في دائرته، التي جعلت منه أسير مكتبه ومنزله.
يخرج أحد المحامين من قاعة المحكمة. يخلع ثوب المحاماة متمتماً عبارات تعبّر عن غضبه. لم يكن ما يشعر به ناتجاً من تأخّرٍ في بتّ القضايا، أو لأن المحكمة رفضت إخلاء سبيل موكله. فأوان البدء بجلسة موكله لم يكن قد حان بعد. لكن غضبه كان نابعاً من أجواء «السونا» داخل القاعة، على حد تعبيره. يقول المحامي إن وجود هيئة واحدة في محكمة الجنايات أكثر ما يضر بالموقوفين والقضاة. فالمحامون أحرار، ويدخلون إلى قاعة المحكمة عندما يكون لهم فيها عمل فقط، ثم يغادرون ليتركوا خلفَهم قضاةً يختنقون بملفاتهم وبرطوبة القاعة. من ناحية أخرى، مُهل التوقيف محددة، ولا يمكن بتّ طلبات إخلاء السبيل قبل استجواب المتهم. ورغم أن المحكمة تعطي أولوية للقضايا التي يكون فيها متهمون موقوفون، فإن العدد الهائل من الملفات لا بد سينعكس سلباً على الإسراع بإصدار الأحكام.
المحامي المذكور يؤكد أن المحكمة تحتاج إلى ثلاث هيئات على الأقل لتتمكن من أن تقوم بالأعباء الملقاة على عاتقها. ويرى المحامي أن قضاة محكمة الجنايات بحاجة إلى أن يشعروا براحة تسمح لهم بالتدقيق في القضايا التي ينظرون فيها، لأن هذه القضايا معقّدة بمعظمها، وتحتاج إلى التأني. فلا يمكن الحكم على متهم بالقتل بشكل متسرّع، رغم أن السرعة مطلوبة، ومن غير المسموح به وضع القضاة تحت هذا الضغط.
محامٍ آخر يؤكّد على أن الأزمة بنيوية. فـ«المشقة» التي يتحمّلها قضاة المحكمة المذكورة، وغيرها من المحاكم، مرتبطة بنظرة الحكّام للقضاء. فمالية العدالة بيد الحكومة، وكذلك التشكيلات التي لا تصدر من دون موافقة السلطة السياسية عليها، وهنا وصاية السياسة على القضاء، مما ينسف أسس استقلاليته. ويلفت المحامي إلى أن مجلس القضاء ينتدب قاضياً ليحل محل القاضي المتقاعد، وأحياناً يبقى القاضي المُنتَدَب في موقعه أكثر من سنة، فلماذا لا يُمنَح حق تشكيل هيئة إضافية بعيداً عن موافقة السلطة السياسية؟
بالمقابل، أكّد المدير العام لوزارة العدل القاضي عمر الناطور لـ«الأخبار» أن قرار خفض عدد هيئات المحكمة المذكورة من ثلاث هيئات إلى هيئة واحدة كان قراراً خاطئاً، مضيفاً إن التشكيلات القضائية التي يدرسها مجلس القضاء الأعلى حالياً حُسِم فيها أمر إضافة هيئة ثانية إلى محكمة الجنايات في بيروت. وأكّد الناطور أن هيئتين ستتمكّنان من تسريع بت القضايا التي ترد إلى المحكمة، إضافة إلى إنهاء الملفات الإضافية العالقة. أما صيانة قاعة المحكمة، فبحاجة إلى توافر موازنات، بحسب الناطور الذي أشار إلى أن وزارة العدل هي من أكثر الوزارات التي تؤمّن دخلاً لخزينة الدولة، وبالتالي، مِن الأَولى أن تنفق الحكومة جزءاً من هذه الأموال لتحسين قصور العدل وقاعات المحاكم.
التشكيلات القضائية تنتظر تعيين وزير جديد للعدل، ويقول بعض المطلعين إنها ستتأخّر بسبب عدد من المراكز المهمة التي ستشغر خلال الأشهر القليلة المقبلة مع خروج بعض القضاة على التقاعد. وبانتظار إصدار التشكيلات والتفات الدولة إلى صيانة قصور العدل، سيبقى على القضاة والمحامين والمتقاضين تحمّل نتائج سنوات الإهمال التي يرزح تحت ثقلها نظام العدالة اللبناني.