لا يزال مدمنو المخدرات يعانون من نظرة المجتمع السلبية إليهم وعدم تطبيق القانون راجانا حمية
كبُر هشام في «الزمن الضائع» ليجد نفسه في حياتين. حياة أولى يختبرها منذ الصغر من دون أبويه اللذين فقدهما بعد الولادة بأشهر قليلة، وحياة ثانية اقتحمت شبابه فلم يكن ثمّة مفر من عيشها وسط ألم وخوف لازماه عشر سنوات، قبل أن يعي، على عتبة الثلاثين من عمره، أنه لمّا يعش بعد.
هشام الذي أرغم على عيش الحياة الأولى، فرضت الثانية نفسها عليه من خلال «الصدفة» والأصدقاء. يتذكّر لحظات عاشها مدمناً على المخدرات، كان يهيم خلالها على وجهه في الشوارع يفتّش عمّن يقرضه المال من أجل الحصول على حبّة مهدّئ أو زجاجة دواء للسعال أو «غرام إيدج» (هيرويين)، يقيه ألم العظام والشعور البائس بعدم جدواههكذا بدأت رحلة هشام مع الهيرويين التي استمرّت عشر سنوات. عاش فيها من لحظات «الموت» ما يكفيه ليختار: إمّا الهيرويين والاستسلام أو العودة إلى الحياة والمواجهة. غير أنّ القرار لم يكن سهلاً، واستغرق اتخاذه 7 سنوات من الإدمان على عشرات الأدوية والمهدئات والمخدّرات، وثلاثاً أخرى من «الأوفرة» (over dose)، تخلّلتها أيّام كثيرة من الكفر والتسكّع، وأيّام قليلة من الهروب إلى مراكز التأهيل بعدما يخلو الجيب من المال وممّا يسكّن الأوجاع، إلى أن وصل به الألم في أحد الأيّام إلى طلب رحمة «المشيئة الإلهيّة» التي لم يكن يؤمن بها أبداً. «لتكن مشيئتك يا رب»... هنا بدأت الحياة الثالثة التي يعيشها هشام في الأماكن التي سبق أن أدمن فيها، وفي الكنيسة التي لجأ إليها للحماية وفي خيمة الأب مجدي العلّاوي في ضهور المعيصرة ــــ كسروان، وأخيراً في «قرية الإنسان» في المنطقة نفسها التي سيعيش فيها الكثيرون ممّن اختبروا مراحل السنوات العشر التي عاشها هشام.
في القرية التي لم ينته إنجازها بعد، كان هشام والأب العلّاوي ومهندس المشروع رامي مطر يجولون في زوايا القرية استعداداً لليوم الأوّل من الافتتاح المقرّر في السابعة من مساء اليوم. كلّهم كانوا خائفين، هشام لأنّه سيستعيد ذاكرة لا يريدها في معايشته مدمنين يشبهونه في حالته السابقة، والأب العلّاوي لأنّه لا يريد لقريته أن تكون حكراً على مدمنين من طائفته، ورامي لأنّه أمام مشروعه الأوّل الخاص الذي يخاف عليه من الفشل.
ولكن مهما يكن السبب، وُلدت القرية في جزئها الأوّل في وقت قياسي لم يتخطّ الأشهر الثلاثة، وباتت بانتظار قاطنيها لتلقّي العلاج الذي لا يشبه غيره. فهنا في قرية الإنسان، كلّ شيء يشبه الطبيعة التي كافح مطر للحفاظ عليها، مغيّراً في مواقع بيوته من أجل الحفاظ على محميّة الأشجار.
يعتمد الأب العلّاوي في علاجه على تنمية إحساس المدمن ــــ المريض بوجود الله، فكلّ ما يسعى إليه هو المداواة بالصلاة والصوم والتأمّل فقط. ومن أجل هذا العلاج، حرص الأب ومطر على أن يقتصر المشروع على المنازل العشرة التي سيقطنها نحو 100 مدمن «وستكون الكنيسة أساس العلاج، حيث يعتاد المدمن من خلالها على التفكير في علاقته مع الله».
تبدأ مرحلة العلاج في القرية من قسم «التبليغات»، حيث أقامت الجمعيّة ثلاثة مكاتب في المناطق والعاصمة، ينتهي بعدها المدمن في غرفة الفحص في أحد المستشفيات، حيث يباشر علاجه الطبّي، لتبدأ بعدها رحلة الـ«18 شهراً» في ضهور المعيصرة بين القمح والكرمة، والكنيسة والمغارة ودرب الصليب وفق برنامج «christo therapy».
وفي هذا الإطار، يشير رئيس الجمعيّة جيرار شرفان إلى أنّ «لحظة وصول المدمن إلى القرية يعني دخوله إلى العالم الجديد، حيث ينقطع لمدّة ستّة أشهر عن الحياة الأخرى التي كان عليها، يخضع خلالها للغذاء الروحي من الصلاة والتأمّل والقداديس والعلاج النفسي مع المتخصّصين والمساعدات الاجتماعيّات». وبعد الأشهر الستّة، تبدأ مرحلة الحياة شبه الطبيعيّة، حيث يسمح للمدمن بأن يخرج من المركز، و«لكن مع مرافق»، وبعد مضيّ تسعة أشهر يحظى المدمن بزيارة مدّتها 24 ساعة إلى منزل العائلة، وقبل ثلاثة أشهر من انتهاء فترة التأهيل، يصبح باستطاعة المدمن أن يعمل ليشعر بقيمته المفقودة طيلة سنوات الإدمان. وبعيداً عن المنحى الروحاني، يتضمّن برنامج العلاج أيضاً، دورات تعليميّة في المسرح والموسيقى والرياضة واللغات.
وبالعودة إلى تفاصيل القرية، قسّم مطر المشروع إلى مرحلتين، الأولى «انتهت مبدئياً ببناء خمسة بيوت خشبيّة، تتّسع كلّ منها لعشرة أشخاص، وترميم الكنيسة والمذبح». ولحظت هذه المرحلة إنجاز بناء مدرّجات المسرح الذي سيقام عليه احتفال اليوم. أمّا في المرحلة الثانية، فستُبنى البيوت الخمسة الإضافيّة للمدمنين، وبيت الضيافة الذي سيستخدم للأهل والعائلات الراغبة بقضاء بعض الوقت في القرية، إضافة إلى الكنيسة الثانية المحاذية للمغارة وقاعات المسرح والمحاضرات والرياضة والنادي الرياضي.


المدمن مريض وليس مجرماً لهذا السبب، تحاول جمعيّة «سكون» لتأهيل المدمنين في مشروعها «حقوق المدمن: نحو انفتاح أكثر»، المموّل من برنامج «أفكار 2» في الاتّحاد الأوروبي، نقل المدمن من الإدانة إلى الاعتراف بحقوقه وتعزيز آليات العمل العدلي على نحو يعكس إرادة المشرّع لجهة التعامل معه كشخص بحاجة إلى العناية الطبّية أو الرعاية النفسيّة والإحاطة الاجتماعيّة، وذلك استناداً إلى قانون المخدّرات والمؤثرات العقليّة والسلائف الصادر في عام 1998.
ويهدف المشروع، الذي انطلق العام الماضي ويستمر حتى نهاية عام 2009، إلى تحسين احترام حقوق المدمنين المخالفين للقانون عبر ثلاثة محاور: توعية الناس على أوضاع المدمنين وتعزيز تطبيق القانون 672/1998، وتعديله في مرحلة لاحقة. ويتضمّن النشاط إقامة جلسات تفكير ومناقشة على صعيد القضاء والضابطة العدليّة والمجتمع المدني ومراكز العلاج.
على صعيد القضاء، تلفت منسّقة مشروع «أفكار 2» مهى الحسامي إلى أنّ الجمعيّة ستنظّم، بالتعاون مع النيابة العامة التمييزية ووزارة العدل، سلسلتين من اللقاءات، في الأولى «يجتمع نحو 30 قاضياً من بيروت وطرابلس وجبل لبنان، وممثلون عن الضابطة العدلية ضمن جلسات تفكير مغلقة تهدف إلى الخروج سويّة بمقترحات آليات تطبيق القانون ووضع توصيات لمناقشتها لاحقاً في ورش العمل في المناطق عينها».
بعد جلسات التفكير، تبدأ جلسات العمل الثلاث، حيث يمثّل كل منطقة 30 قاضياً من الذين يعملون في المجال الجزائي، إضافة إلى القضاة الشباب، على أن يجري خلال هذه الورش استعراض الوضع القانوني الحالي في الممارسة العمليّة لمدمني المخدرات، وإبراز خصوصية جرم الإدمان على المخدرات، وتحديداً لجهة الربط بين الملاحقة والتعهّد بالعلاج من الناحيتين القانونية والطبية.
أما على صعيد الضابطة العدليّة، فينظّم المركز، بالتعاون مع مديرية قوى الأمن الداخلي، مجموعة من الدورات والمحاضرات التدريبيّة في المجالين الطبي والقانوني مع ما يقارب 100 عنصر في شعبة مكافحة المخدرات، و1500 عنصر من المتطوعين الجدد، فضلاً عمّا يقارب ثمانين من الضباط ورتباء التحقيق ممن يتولون مهمات إدارية في المخافر.
وفي المرحلة الثالثة، يبدأ العمل، بالتعاون مجدداً مع المؤسسات السابق ذكرها، ولكن أيضاً مع المنظمات غير الحكومية المختصة ومراكز العلاج والإعلام، من أجل تحديث قانون عام 1998 وسد الثغرات التي تعترض حسن تطبيقه.
ولعلّ الأسباب التي تدفع إلى تعزيز هذا القانون وتعديله، ما يذهب إليه المستشار القانوني لمركز «سكون» في المشروع المحامي نزار صاغية من «أنّ حسن التعامل مع آلية العمل الجديدة ــــ إرادة المدمن، يتطلب بالضرورة الاستعانة بأصحاب الاختصاص، وخصوصاً الأطباء والقيمين على مراكز العلاج». ملاحظة ثانية يلفت إليها هي «عدم تفعيل لجنة الإدمان الإدارية التي عهد إليها القانون صلاحية متابعة حال المدمن، وعلى الأخص متابعة مدى التزامه بتعهد العلاج، إضافة إلى مهمة التنسيق مع الاختصاصيين».
وبعيداً عن ورش العمل، أصدر المركز كتيّباً عن «المدمن ما بعد الأحكام المسبقة»، تناول خلاله وضع المدمن كمريض لا يمكن علاجه في السجن، كما يحضّر المركز، بالاشتراك مع «دار قنبز» للإنتاج، وثائقيّاً يرتكز على شهادات حيّة للمدمنين وذويهم، ويطرح مشكلة الإدمان من الناحية الإنسانيّة والاجتماعيّة، بعيداً عن مفهوم الجدران والسجون التي أثبتت فشلها في إيقاف هذا المرض.