جوان فرشخ بجالي
سرجيلا قرية «ماتت» حينما هجرها أهلها قبل 1300 عام. حزموا أغراضهم ونظفوا منازلهم ورحلوا مخلّفين للتاريخ بيوتاً مبنية بالحجر الصلب ومعصرة ومقابر وكنيسة وجامعاً. وفيما لم يعرف بعد سبب الهجرة استطاعت الدراسات كشف أسرار حياة الناس اليومية

ثمانية عشر عاماً من الدراسات تناولت قرية سرجيلا السورية وأبنيتها للرد على التساؤلات عن الحياة اليومية لأهالي تلك القرية واستخلاص طريقة حياة أهالي مئات القرى البيزنطية الأخرى المنتشرة على منحدرات جبل الزاوية في شمال سوريا التي هجرت أيضاً في الفترة نفسها.
وإذا كانت نتائج الدراسات التي يقوم بها الفريق العلمي السوري ـــــ الفرنسي ستنشر خلال أشهر، إلا أن جيرار شاربنتي، المهندس المسؤول عن الدراسات الهندسية وترميم الأبنية في هذه البعثة، كان قد كشف بعضاً منها خلال محاضرة أقيمت في المركز الثقافي الفرنسي قبل أيام.
«الأخبار» التقت شاربنتي واطلعت منه على مزيد من التفاصيل عن الدراسات التي يقول إنها لم توضح سبب الهجرة، «ولكنها سمحت لنا اليوم بمعرفة مجريات الحياة اليومية في سرجيلا، أكبر قرى جبل الزاوية، فهي مؤلفة من أكثر من 50 منزلاً كبيراً مقسماً بعضها إلى عشر غرف». والجدير بالذكر أن حجم البيوت وكثرتها كانا قد أعطيا هذه القرى في القرن الماضي تسمية «مدن شمال سوريا الميتة». لكنّ للمدن شكلاً هندسياً معترفاً به، وتركيبة اجتماعية واضحة، وهيكلية إدارية... وهذه المعطيات غير متوافرة في أطلال البيوت المتناثرة في منطقة جبل الزاوية، ما دفع العلماء إلى تغيير التسمية إلى «قرى شمال سوريا».
وبالإضافة إلى بيوتها، تتميز سرجيلا بمقابرها ومعاصرها وحمامها وفندقها وكنيستها وجامعها. ولكلٍّ من تلك المباني «قصة» منحوتة في الحجر، بما أن الموقع المهجور يفتقر إلى النصوص والكتابات. وتقسم مقابر سرجيلا إلى نوعين: غرف محفورة بالصخر، ونواويس ضخمة منحوتة بحجارة المنطقة. ولم تسمح الحفريات الأثرية بتحديد المقلع الذي استُخرج منه الصخر فقط، بل أيضاً بتحديد تاريخ استخراج كلّ من النواويس السبعة الموزعة على الموقع وطريقة العمل. يقول شاربنتي: «أولاً كانت تُحفَر الصخرة التي ستُنحَت لاحقاً إلى ناووس، وذلك بحسب المقاسات المطلوبة، ثم توضَع على ألواح خشبية مستديرة وتحاط بالحبال ويجرّها الحمير إلى خارج المقلع، فتوضع على القاعدة التي صنعت خصيصاً لها، ومن بعدها يبدأ نحتها من الداخل لتتحوّل إلى ناووس يوضع بداخله الجثمان ويأتي الغطاء المخروطي الشكل من فوقه. ومن الواضح أن الناووس لم يكن يستعمل لشخص واحد، بل مداورة لكلّ أفراد العائلة الواحدة. وكالعادة فقد تعرّضت هذه النواويس للسرقة سابقاً، حتى إن أحدها قد حافظ على غطائه مُزاحاً قليلاً، كما لو أن السارقين دخلوه في الأمس».
الواقع أن الزمن يضيع قليلاً في سرجيلا، فلا تظهر علامات السنين على أطلال البيوت التي لا تزال تحتفظ بطبقاتها العليا وبأعمدة مداخلها، فيما لم يفقد بعضها إلا سقفه الخشبي. بيوت مشيّدة كلها بالحجارة الصلبة ذات اللون الرمادي والمستخرجة من مقالع تقع على مسافة قريبة من القرية. هذه المنازل الكبيرة كان كلّ منها يضمّ عائلة واحدة، كلما كبر أفرادها وزاد عددهم أضافوا غرفاً جديدة إلى البيت الكبير.
تخفي منازل سرجيلا أسرار خمسة قرون من السكن والحياة اليومية. حياة كانت تدور في كنف الزراعة ونحت الحجر. يشرح شاربنتي قائلاً: «لقد عثرنا في سرجيلا على معاصر للزيتون والعنب أجرانها منحوتة في الصخر، وبعض تلك المعاصر مبنية داخل صرح البيت الواحد، وهناك معصرة واحدة كبيرة مبنية في وسط القرية، وكأن كلّ أفراد القرية كانوا يستعملونها».
وفي سرجيلا أيضاً خزانات ضخمة للمياه محفورة في الصخر ومطلية جدرانها بورقة عازلة. وأكبر الخزانات يزيد عمقه على خمسة أمتار، ولا يزال أهالي المنطقة يستعملونه. فجوفه يمتلئ بمياه الأمطار في فصل الشتاء، وفي الربيع تصبّ فيه المياه الجوفية التي حفرت (طبيعياً) ممرّات لها في الصخر. وكما المعاصر، كذلك الخزانات، ففي هذه القرية خزان كبير لكلّ بيت، وخزان واحد ضخم في ساحة القرية. وكانت مياه هذا الخزان تستعمل أيضاً في الحمام العام المبني على طراز الحمام الروماني (المعروف حالياً بالحمام التركي)، أي ثلاث غرف تتسع كل واحدة منها لأكثر من عشرة أشخاص تتوسطها بركة مياه. أولى الغرف باردة، أما الثانية فمياهها معتدلة الحرارة والثالثة حارة جداً. وفي وسط حمام سرجيلا قاعة كبيرة تتسع لعشرات الأشخاص، وبسبب المقاعد المبنية على أطرافها فهي تشبه قاعات الاجتماع. وتقف قرب الحمّام أطلال فندق سرجيلا القديم، وهو مبنى يرتفع إلى ثلاث طبقات مقسم إلى عدّة غرف صغيرة، بعضها متصل ببعضه... وقد حافظ الفندق على هيبته، إذ لم يخسر الا أدراجه الخشبية. ويقول شاربنتي: «إن الفندق والحمام يقعان على مقربة من الكنيسة المزينة أرضيتها بالفسيفساء، وقد كبرت كثيراً في القرن الخامس الميلادي حتى أصبحت صرحاً له غرف ملاصقة به. ونحن لا نعرف بعد سبب كبر حجم الكنيسة هذه، وإذا ما أصبحت مركزاً للحجّ كجارتها على المنحدر الثاني، حيث يقع دير مار سمعان العمودي، ذلك هو افتراض لا يمكن الجزم به أبداً، لكنه يفسر وجود فندق وحمام».
ويقول شاربنتي إن إحدى «المشاكل» التي تعانيها سرجيلا حالياً هي «تدفق السياح عليها. فقد عُبدّت ثلاث طرق أخيراً لتلبية حاجة الباصات الكبيرة التي تصل إلى الموقع الذي لم يؤهل بعد بشكل يسمح له باستقبال هذا العدد من الزوار وعدم إحداث أضرار على الابنية». وإن كان بعض السياح يدفعهم حب المعرفة والتعلق بالشعوب القديمة، إلا أن القسم الأكبر يدفعهم استغلال رجال الدين، وخصوصاً اللبنانيين منهم. فبعض من أعضاء الأكليروس يروّجون لسرجيلا على أنها قرية مار مارون وأنه دفن في أحد النواويس المنتشرة في أرجائها. وبالطبع يقع هذا التفسير للتاريخ في إطار الاستغلال التجاري البحت. فما من دلالة واحدة تؤكد أن مار مارون عاش في هذه القرية، أو حتى دفن فيها. فسرجيلا هي قرية من قرى جبل الزاوية الـ700، وما يميزها عن غيرها أنها درست بشكل معمق، فكشفت طرق الحياة فيها وسبب نموها الاقتصادي وعثرت البعثة فيها على كنيسة وجامع ضخم يعود تاريخه إلى القرن السابع الميلادي. ويبدو أن سرجيلا عرفت لعدة عقود التعايش الديني، إذ استعمل الصرحان في الفترة نفسها.
الأهمية التاريخية لسرجيلا وباقي «القرى الميتة» في جبل الزاوية ستمثِّل حافزاً لتصنيفها على لائحة اليونسكو للتراث العالمي. وتعمل السلطات السورية الآن على تأمين كلّ الضرورات لإدراج المنطقة بأكملها، وبالتالي المحافظة عليها للأجيال القادمة، فتعبر الزمن بسلام.