دبي - جان عزيز
يروى عن أحد أبرز منظّري «الحريرية السياسية» من مسيحييها الأمنيين الحاليين والدائمين، أنه كان يردد دوماً «أن المسيحيين منذ بشير الجميل، يبحثون عمّن يصالحهم مع سوريا». ويروى أن هذه المقولة كانت، في شكل مباشر أو غير مباشر، واع أو غير واع، الخلية المولّدة لكل الأفكار والأطر والحركات السياسية التي عرفها «مسيحيو الوسط»، إبان الحروب اللبنانية.
وفي هذا السياق برزت محاولات عدة للسعي الى تلك المصالحة، وجربت أبواب مختلفة:
المنظّر نفسه وضع مؤلفاً كاملاً عن حافظ الأسد، فيه من الأدب والسياسة ونقيضيهما ما فيه، للإيحاء الى «نظام الدولة» في سوريا، كما اختار بشار الأسد ان يوصّفه في «رسالة» منه الى بكركي، ما يشي برغبة واضحة فاضحة في أن يكون مؤلف الكتاب راعي «الوصل» المنشود، وقاطف ثماره.
وعندما أدرك صاحب المسعى نفسه أن «الاستثمار الأسدي» الأول في لبنان، آنذاك، بات مرتكزاً على الجانب المسلح من «حزب الله»، لأسباب وحسابات إقليمية ودولية معروفة، بادر الى إضافة «ملحق» تلفزيوني لكتابه، يشرح فيه قدرته والفريق الذي يمثل على تلبية هذه الأولوية السورية، لجهة امتلاكه وحيداً الفكر والرؤية والممارسة القادرة على إقناع المسيحيين بضرورة «المقاومة»، لا من أجل تحرير الأرض اللبنانية وحسب، بل أيضاً وخصوصاً، في سياق الخدمة اللبنانية الضرورية لانتماء بيروت العربي والإقليمي، من دون نسيان بعض مجتزآت الإرشاد الرسولي، المنكوب دوماً بمثلها، بحسب الرغبة وغبّ الطلب.
محاولة ثانية قامت في السياق نفسه، ولكن في ظل توقيت وإطار وشكل ومضمون أشد تعبيراً وأعمق دلالة. كان ذلك منتصف التسعينيات: ميشال عون في المنفى، سمير جعجع في الأسر «الظالم جداً جداً جداً»، والمسيحيون في حال عداء مع متصرفية غازي كنعان. يومها تنادى عشرات من «أصحاب المساعي الحميدة والنيات الطيبة» الى عقد خلوة مطولة في إحدى المدارس البيروتية الكنسية العريقة، وخرجوا بوثيقة مفاد مضمونها أن المختلين يعتبرون جذور القضية المسيحية في لبنان، وبالتالي جوهر الأزمة اللبنانية، في أن ثمة تيارين مسيحيين سيطرا على الحياة السياسية في لبنان منذ نشوئه مطلع القرن الماضي: تيار أول غربي أو متغرّب، منعزل عن محيطيه، الداخلي اللبناني المسلم، والاقليمي العربي ببواباته المتبدلة، وتيار آخر ملتحم بهذين المحيطين، عبر مقولتي الميثاق الوطني لبنانياً والانتماء العربي إقليمياً. وتذهب الوثيقة الى عرض تاريخ المآزق اللبنانية في ضوء هذه القراءة «المانيكية» بين مفهومي الخير والشر للبنان ومسيحييه ومسلميه ومحيطه. فتعتبر أن «الخير» في الأربعينيات كان اسمه «الدستوريين»، فيما «الشر» كان عنوانه «الكتلة الوطنية». وفي الخمسينيات تبادل الاسمان مع الشهابية والشمعونية. وفي الستينيات صارت التسميتان «النهج» و«الحلف»... وصولاً الى السبعينيات والانفجار.
وتخلص تلك الوثيقة الى الجزم بأن الكارثة وقعت في لبنان، يوم ابتعد المحيط العربي، وبوابته الموسمية الظرفية مهما كانت، عن التيار المسيحي المعتدل، أو «تيار الشرعية المسيحية التاريخية» كما تسميه، لتتعاون أو تتقاطع مع التيار المسيحي الانعزالي الآخر. ولتختم تلك الوثيقة الخطيرة بأن الفرصة متاحة يومها، منتصف التسعينيات، وفي ظل الظروف المذكورة أعلاه تحديداً، من أجل تصحيح ذلك «الخطأ التاريخي»، بحيث تعود البوابة العربية المعنية عن تقاربها مع مسيحيي الانعزال، وتجدد تحالفها مع مسيحيي الميثاق والعروبة، بما ينقذ لبنان ومسيحييه وجواره من الكوارث والمآزق.
وفي المقلب الآخر قيل إن ميشال عون وسمير جعجع نفسيهما، لم يكونا بعيدين حتى عن فكرة المصالحة مع سوريا، من ناحية المبدأ. فحمل أكثر من موفد عوني رسائل الى دمشق، من تحت الحصار أو من المنفى، كانت آخرها الدعوة التي نقلها غابي عيسى في تشرين الثاني 2004، لتوفير خروج سلمي مشرّف للجيش السوري من لبنان. وكتب سمير جعجع مطلع التسعينيات كتاباً مفصلاً الى حافظ الأسد، حرص على أن يكون تخطيطاً لا طباعة، وقيل إن ناقله كان ضابطاً سورياً رفيعاً من القريبين من حلقة النظام الأولى، ومن خارج القنوات العنجرية. وفي هذا الكتاب يروي العارفون أن جعجع عرض على الرئيس السوري الراحل حقيقة ما يفكر، وحقيقة قراءته للأزمة اللبنانية وتصوراته لحلولها. (وهي وثائق يعتقد كثيرون للمناسبة، أنه آن الأوان للكشف عن مضامينها، للتاريخ والحقيقة...).
غير أن المسعى السوري الجدي الوحيد، كما يؤكد المطلعون، للتصالح مع المسيحيين، كان عبر بكركي، وهو ما حمل عناوين قاربت حد السذاجة السياسية، مثل الدعوة الى سيد الصرح لتتويج احتفالات ما ببقايا القديس مارون في سوريا، أو أبيات الشعر والتقريظ المرفقة بباقات الورود من أبو يعرب وأبو عبده، عند خضوع غبطته لجراحة في عينه. وهي مساع لم تفلح في إقناع بكركي بالتخلي عن مطلب السيادة، فيما كان الآخرون، كل الآخرين، راضين متنعّمين باستباحة الوطن من أجل حسابات شخص أو فئة أو جماعة.
بعد أقل من سنتين على جلاء السوري رغماً عنه، تبدو الصورة مطابقة الى حد كبير، في الوسط السياسي المسيحي. فالذين كانوا مع الاستقواء بالخارج ضد شركائهم في الوطن، أو كيداً لنظرائهم داخل جماعاتهم، ولو على حساب السيادة والكرامة، لا يزالون على النهج نفسه. والذين كانوا مع استعداء الداخل ضد الخارج، خدمة لمصالح مكشوفة أو مستترة، لا يزالون كذلك. وحدهم دعاة التلازم بين السيادة والتوازن والحرية، يبدون في موقع متقدم هذه المرة، ذلك أن ثمة أكثرية مسيحية ثابتة قد تعلمت من التجارب واستخلصت العبر.