نقولا ناصيف
لا تعدو التحرّكات المحلية والدبلوماسية المحيطة بانتخابات الرئاسة اللبنانية كونها تنشط في دائرة مفرغة، عاجزة عن رسم ملامح حل للنزاع الناشب بين قوى 14 آذار والمعارضة. بعض هذا التخبّط يُعزى إلى عدم وجود ضغط دولي كاف على الأفرقاء الداخليين لحملهم على الاتفاق، والبعض الآخر يُعزى إلى أن هؤلاء غير راغبين، أو في أبسط الأحوال، غير مستعجلين إيّاه. في هذا السياق تندرج ملاحظات توردها مصادر دبلوماسية أوروبية على تماسّ مباشر مع معركة الرئاسة اللبنانية:
أولاها، أن الزيارة التي يعتزم القيام بها للبنان، يوم الجمعة المقبل، الوفد الوزاري الأوروبي الذي يضم وزراء خارجية فرنسا برنار كوشنير، وإيطاليا ماسيمو داليما، وإسبانيا ميغل أنخيل موراتينوس لـ24 ساعة، تحمل هدفاً رئيسياً واحداً هو إظهار الدعم السياسي لجنود القوة الدولية التابعين للدول الأوروبية الثلاث هذه في جنوب لبنان، وتأكيد تضامنهم معهم واهتمامهم بدورهم وسلامتهم. ويتأتّى هذا الحافز من مخاوف لدى العواصم الأوروبية الثلاث من احتمال إخفاق اللبنانيين في انتخاب رئيس جديد للجمهورية ووقوع البلاد في فراغ دستوري يهدّد بنشر الفوضى فيها، وتعطيل تنفيذ القرار 1701 وتالياً تعريض حياة الجنود الأوروبيين للخطر.
وبحسب المصادر الدبلوماسية الأوروبية نفسها، لا يحمل الوزراء الثلاثة معهم إلى بيروت اقتراحات أو أفكاراً محددة تتصل بسبل إخراج الاستحقاق الرئاسي من مأزقه، بل يعتزمون الاكتفاء في جولاتهم على المسؤولين والشخصيات اللبنانية بتأكيد الحرص على إجراء انتخابات الرئاسة في موعدها وانتخاب رئيس جديد بتوافق الأفرقاء اللبنانيين، وضرورة عدم حصول تدخّل خارجي فيه. وهو الموقف الذي تجهر به حكومات الدول الثلاث دون التورّط في تفاصيل الاستحقاق الرئاسي. إلا أنهم سيبلغون إلى المسؤولين والشخصيات اللبنانية جدية مخاوفهم واهتمامهم البالغ بسلامة الجنود الدوليين جنوب نهر الليطاني.
ثانيتها، استمرار التجاذب والتهويل المتبادل بين الأميركيين والسوريين حيال الاستحقاق الرئاسي. وفيما تعلن واشنطن أنها ماضية في تشديد الضغوط على دمشق لكف تدخلها في الشؤون اللبنانية عموماً والاستحقاق الرئاسي خصوصاً، تردّ هذه بوضع الاستقرار اللبناني في دائرة الخطر والتحذير من ذلك.
وهكذا يؤكد الأميركيون والسوريون على السواء استمرار صراعهم على الأرض اللبنانية. الأمر الذي يحمل المصادر الدبلوماسية الأوروبية إياها على إدراج ما يجري في لبنان في نطاق معادلة قوة، مفادها أن في وسع الأميركيين حمل قوى الغالبية النيابية التي تمثلها قوى 14 آذار على انتخاب رئيس للجمهورية بنصاب النصف الزائد واحداً وتأمين الاعتراف الدولي بشرعيته، لكن من غير أن يكون في مقدورها توفير المقدّرات التي يحتاج إليها كي يحكم أو حتى يتسلّم هذا الحكم من الرئيس الحالي إميل لحود.
في المقابل، لم يعد في وسع سوريا فرض انتخاب رئيس للجمهورية موال لها على غرار السنوات المنصرمة، إلا أنها لا تزال قادرة على تعطيل انعقاد مجلس النواب لانتخاب رئيس بتوافق الأفرقاء جميعاً ويمسك بزمام الحكم.
بذلك، حسب تقويم المصادر الدبلوماسية الأوروبية المعنية بالاستحقاق الرئاسي اللبناني، فقدت دمشق في لبنان كل أوراق القوة التي كانت في حوزتها، إلا أن واشنطن لم تستطع وحدها السيطرة عليها. وتجاذبهما يؤول إلى فوضى سياسية في لبنان. لا يكتفي الأميركيون بتجاهل دور سوريا في هذا البلد، بل يثابرون على مطاردتها دولياً وتشديد العزلة عليها. في المقابل، أرسل الرئيس بشار الأسد الأسبوع الفائت رسالة جديدة إليهم يخطرهم فيها ضمناً بتلازم الاستحقاق الرئاسي والاستقرار
اللبناني.
ثالثتها، أن المبادرات المحلية الثلاث، على أهميتها، تصبّ في منحى واحد هو الحؤول دون حصول فراغ دستوري بسبب شغور كرسي الرئاسة، إلا أنها تدور خارج الوقت المناسب للحل. أو على الأقل تبدو سرعة مبادرتَي رئيس المجلس نبيه بري وبطريرك الموارنة مار نصر الله بطرس صفير، والحوار المتقطع بين بري ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري، أبطأ من تلك التي تتحكم في الموعد المناسب للحل ومن ثم لانتخاب رئيس جديد.
لكن ذلك لا يحجب اعتقاد المصادر الدبلوماسية الأوروبية بوجود أكثر من قاسم مشترك بين المبادرات الثلاث من شأنه تسهيل الاتفاق عندما يحين الأوان، قد يكون أبرزها أن الحوار الماروني ـــــ الماروني تحت سقف بكركي يساعد طرفي النزاع على التوصل إلى اقتناع واحد هو تقديمهما تنازلات متبادلة تؤدي بدورها إلى استبعاد متبادل لمرشحي الفريقين. وقد بات كل منهما ينعت ترشيح الآخر بالتحدي، وترشيحه هو بالتوافقي، ويساعد كذلك على تبديد أي انطباع بنشوء حلف رباعي جديد يساوم على انتخاب رئيس للجمهورية لا مكان للشركاء المسيحيين فيه، وهم أكثر المعنيين باستحقاق يتصل بمنصب طائفتهم. ويساعد أيضاً وأيضاً في إعطاء رئيس المجلس مهلة إضافية لتعزيز الحوار الداخلي مع الحريري، من غير أن يشعره بأنه يدير حواراً شيعياً ـــــ سنياً على استحقاق مسيحي.
يدفع ذلك كله المصادر الدبلوماسية الأوروبية إلى استبعاد أي تطور جدي على جبهة الاستحقاق الرئاسي قبل 10 تشرين الثاني المقبل، من غير أن تتوهم، على غرار الأفرقاء اللبنانيين، بأن تاريخ 14 تشرين الثاني يمثل المهلة القصوى لإنجاز الاستحقاق. بل هي تفترض أن الحوار المستمر ضمن المبادرات الثلاث، ومن خلاله الخلاف على الأسماء، قد يستغرق وقتاً يلامس الأسبوع الأخير من نهاية ولاية الرئيس الحالي قبل أن يتمكن مجلس النواب من انتخاب خلف له. واستناداً إلى ذلك، ترجّح المصادر تصاعد وتيرة الجدل السياسي واقتراب قوى 14 آذار والمعارضة على السواء من حافة الهاوية، لكن دون أن يجازف أحد منهما بدفع الآخر إليها متصوّراً أنه في منأى عنها.
ويبدو، تبعاً لما تورده المصادر الدبلوماسية الأوروبية في ضوء استمزاجها اليومي تقريباً آراء سياسيين لبنانيين من الفريقين بغية استخلاص المسار الذي يمكن أن تشقه الصعوبات المحيطة بالاستحقاق الرئاسي، أن مصير الأخير سيظل، حتى إشعار آخر، معلّقاً على مشجب ربع الساعة الأخير.