strong>تنشر «الأخبار» دراسة أعدّها الفقيه الدستوري ادمون رباط في ستينات القرن الفائت ولم تنشر سابقاً حول النصاب المتوجب توافره في مجلس النواب في عملية انتخاب رئيس الجمهورية، المنصوص عليها في المادة 49 من الدستور
يتطلب تفسير المادة 49 من الدستور أولاً تفهم نصها تفهماً لغوياً، وثانياً استخراج معناها، بطريقة التفسير العلمية.

  • أولاً: في مفهوم النص لغوياً

  • 1 ـــ تنص المادة 49 المذكورة الحالية، كما تعدلت بموجب القانون الدستوري الصادر في 8 ايار سنة 1929 على ما يلي:
    * ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النهاب في الدورة الاولى ويكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي.
    وهذه المادة قد جاءت بعد تعديلها المذكور، بالفرنسية، كما يلي:
    «Le Président de la République est élu au scrutin secret à la majorité des deux tiers des suffrages, par la Chambre des Députés. Apres le premier tour de scrutin, la majorité suffit…»
    أما قبل تعديل هذه المادة بالقانون الدستوري المذكور الصادر في 8 ايار سنة 1929، فقد كانت هذه المادة على الشكل التالي:
    * ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري، بغالبية الثلثين من مجموع اصوات الشيوخ والنواب ملتئمين ويكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي...
    وبالفرنسية
    «Le Président de la République est élu au scrutin secret de la majorité des deux tiers des suffrages par le Sénat et la Chambre des Députés, réunis en Congrés. Apres le premier tour de scrutin, la majorité absolue suffit…» فمن النص العربي الاصلي للمادة 49 يتبين اذن ان النصاب كان مبنياً على «مجموع اصوات الشيوخ والنواب».
    2 ـــ ومن هذه النصوص الاربعة، اي النصين العربي والفرنسي للمادة 49 قبل تعديلها، والنصين العربي والفرنسي، لهذه المادة، بعد تعديلها، تنبري الملاحظات التالية:
    أولاً ـــ ان النص العربي الاصلي (اي قبل سنة 1929) كان صريحاً بقوله ان النص انما يرتكز الى «مجموع اصوات الشيوخ والنواب» بينما النص الفرنسي قد جاء خالياً لهذا الشرط، بل معتمداً العبارة العامة المذكورة فيه.
    ثانياً ـــ ان النص العربي للمادة 49، بعد تعديلها، وذلك بعد الغاء مجلس الشيوخ، وحصر التمثيل الوطني، وبالتالي انتخاب رئيس الجمهورية، بمجلس النواب، قد اكتفى بالقول بأن هذا الانتخاب يجري «بغالبية الثلثين من مجلس النواب»، كما ان النص الفرنسي قد بقي، بعد هذا التعديل، على ما كان عليه من هذه الناحية.
    3 ـــ فلماذا هذا الفرق في النص العربي، قبل تعديله وبعده، ولماذا هذا الاستمرار في ذات التعبير في النص الفرنسي، قبل تعديله وبعده؟
    وهل ان الاختلاف بين النص العربي الاصلي والنص الفرنسي الاصلي كان يدل على اختلاف بمعناهما، او ان في حذف كلة «مجموع الاصوات»، في النص العربي، بعد تعديله للاكتفاء بعبارة «بغالبية الثلثين من مجلس النواب» اشارة الى رغبة من واضعيه بتسوية معنى النصين العربي والفرنسي، بعد تعديلهما، او بعبارة اخرى، بتصحيح النص العربي الاصلي، لجعله متوافقاً مع النص الفرنسي الاصلي، الذي بقي على حاله، ومن المؤسف ان لا نجد عناصر للجواب على هذه الاسئلة، في المناقشات، المقتضية، التي دارت في البرلمان اللبناني، عندما صوّت، في مجلسيه السابقين، على القانون الدستوري الصادر في 8 أيار سنة 1929.
    ولذلك لا يسعنا سوى الاستعانة بالمعنى الفرنسي لتلك العبارة، الواردة في النص الفرنسي، السابق واللاحق وهي:
    «A la majorité des deux tiers des suffrages, par…»
    ولا سيما ان هذه المسألة لا تبدو انها قد انتصبت في حياة الجمهورية الفرنسية الثالثة، التي نقل دستورنا المادة 49 منه، عن المادة 2 من قانونها الدستوري الصادر في 25 شباط سنة 1875، ونصها كان كما يلي:
    «Le Président de la République est élu à la majorité absolue des suffrages par le Senat et la Chambre des Députés réunis en Assemblée Nationale».
    ويلوح لنا ان بالفرنسية، تعني العبارة القائلة، على وجه التحديد، بأن انتخاب رئيس الجمهورية انما يتم «باكثرية الثلثين من الاصوات (A la majorité des deux tiers des suffrages)، ان هذه الاكثرية الخاصة للأصوات، تعود الى مجموع اصوات مجلس النواب.
    ذلك ان كلمة suffrage تعني بالفرنسية، الصوت، كما جاء هذا التعبير في النص العربي للمادة 49، وليس المصوتين (votants).
    فلو اراد النص الفرنسي ان يعين، باستعماله العبارة التي استعملها، المصوتين (votants)، وليس الاصوات، لكان قال صراحة ان هذا النصاب يتألف من الغالبية المطلقة من المصوتين (في المادة 2 من القانون الدستوري الفرنسي المشار اليه) ومن غالبية الثلثين من المصوتين في المادة 49 اللبنانية.
    الا ان النص الفرنسي للمادة 49 قد استعمل كلمة اصوات، ونسبها ليس الى النواب والشيوخ في البرلمان (قبل تعديل هذا النص) وليس الى النواب (بعد هذا التعديل) وانما الى «غالبية الثلثين من مجلس النواب»، اي من اعضاء هذا المجلس.
    مما يعني اذن ان الاصوات التي تتطلبها المادة 49 أكانت بنصها العربي ام بنصها الفرنسي، لم تكن اصوات النواب الحاضرين بنصابهم الاصولي (اي النصاب الذين تفرضه المادة 34 من الدستور)، وانما اصوات النواب الذين يؤلفون مجلس النواب، ولا سيما وان في حالة انتخاب رئيس الجمهورية يتحول مجلس النواب، من هيئة تشريعية، الى هيئة انتخابية خاصة، كما تنص عليه المادة 75 من الدستور، مما لا يجعل مجالاً في هذه الحالة لتطبيق النصاب العادي، الخاص بسائر وظائف مجلس النواب.
    4 ـــ وثمة استنتاج معاكس كان توصل اليه بعض رجال السياسة، في سنة 1958 عندما عرضت هذه المسألة للمرة الاولى في لبنان، وذلك بفعل المقارنة بين المادة 49 وبين المواد 60 و70 و77 و79 من الدستور.
    فالفقرة الثانية من المادة 60 من الدستور العائدة للقواعد المتبعة في كيفية اتهام رئيس الجمهورية بخرق الدستور والخيانة العظمى، تقضي على مجلس النواب بأن يتخذ قراره بالصدد بـ«غالبية ثلثي مجموع اعضائه».
    كما ان المادة 70 المتعلقة بكيفية اتهام الوزراء بارتكابهم الخيانة العظمى او إخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم، تنص على انه لا يجوز ان يصدر قرار الاتهام الا بـ«غالبية الثلثين من مجموع اعضاء المجلس».
    وفي القواعد المنصوص عليها في الفقرة ب من الفصل الثالث العائد لتعديل الدستول قضت المادة 77 بوجوب اصدار اقتراح مجلس النواب بتعديل الدستور، بـ«أكثرية الثلثين من مجموع الاعضاء التي يتألف منها المجلس قانوناً».
    وفي المرة الثانية وبعد اعادة مشروع التعديل الى المجلس، اذا لم توافق عليه الحكومة وجب، ان اصر المجلس على مشروعه، ان يصدر قراره، عندئذ، بـ«اكثرية ثلاثة ارباع من مجموع الاعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانوناً».
    كما في المادة 79، الواردة في الفقرة ت المتعلقة بـ«أعمال مجلس النواب»، قد نصت على انه يجب ان تتألف الاكثرية المطلوبة، في حال طرح مشروع يتعلق بتعديل الدستوري ــــ من قبل الحكومة ـــ، «من ثلثي الاعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً»، ليصح التئام المجلس مع الاضافة انه «يجب ان يكون التصويت بالغالبية نفسها».
    فالذي يبدو ظاهراً في هذه النصوص الاربعة، هو الاختلاف في صياغتها:
    ففي حين ان المادتين 60 و 70 تذكران اغلبية تتألف على اساس «مجموع اعضاء» مجلس النواب، تصرح المادتان 77 و79 الاخيرتان بأنه يقتضي ان تتم اكثرية الثلثين او الثلاثة ارباع، «من مجموع الاعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانوناً»، او «من ثلثي الاعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً».
    فبين الفئتين من النصوص الاربعة، اختلاف اذن في اشكالها.
    وكما ان الاختلاف قد وقع بين هاتين الفئتين من النصوص، فكذلك قد وقع بينها وبين نص المادة 49 من الدستور.
    فيتضح اذن من ذلك، ان جميع هذه النصوص قد ارتدت اشكالاً مختلفة، للتعبير عن القاعدة الواحدة، ألا وهي ان النصاب في الاحوال التي وصفتها لا يكتمل الا في توفر الاغلبية التي ذكرتها.
    وذلك مع الملاحظة ان الدساتير لا تتبع في حياكة موادها، للتعبير عن الاحكام المتماثلة او المتشابهة الواردة فيها، صيغة واحدة، بل صيغاً متنوعة، لا تختلف معانيها باختلاف شكل تحريرها.
    والامثلة على ذلك كثيرة، لا في القانون الدستوري فحسب، وانما ايضاً في القانون الدولي والقانون الداخلي بفروعه المختلفة.

  • ثانياً: في تفسير النصر علمياً

  • 1 ـــ لتفسير القوانين، تفسيراً موضوعياً، قواعد علمية اصبحت شائعة، لا في القانون الخاص فقط وانما ايضاً في القانون العام ومنه القانون الدستوري.
    كانت تستند الطريقة القديمة في تفسير القوانين اولاً الى ما يتحويه النص من العناصر اللغوية والقانونية، إذ ان المفسرين كانوا يجهدون لاستخراج ما امكن استخراجه من النص المعروض على تفسيرهم، بالاستعانة بمحتويات هذا النص وحدها.
    واذا اشكل عليهم فهمه وتعذّر تطبيقه، لإبهام قد بدا فيه أو للبس قد اعتراه، لجؤوا عندئذ الى «الاعمال التحضيرية او التمهيدية» لهذا القانون، من تقارير موضوعة قبل صدوره ولاجل اصداره، ومناقشات برلمانية او غير برلمانية قد تقدمته.
    وفي هذه الاعمال التحضيرية كان يتحرّى المفسرون، ليس فقط عما قصده المشترع عندما اعتزم وضع هذا القانون وانما ايضاً عن الغاية لكل حكم من احكامه.
    وكان لا بد لهذه الطريقة الشكلية الضيقة من ان تؤدي، اما الى الاشكال في معرفة تلك المقاصد لأن المشترع لم يلحظها، وإما الى اعسار في تكييفها، وبالتالي في تطبيق القانون الذي ينطوي عليها، لان الزمن قد تطور وان حالاً جديداً قد ظهر.
    وعندئذ كان يبدو القانون غير متوافق لمقتضيات الزمن وغير متجاوب مع حاجات المجتمع.
    2 ـــ ولذلك قد تحول رجال القانون، منذ اوائل هذا القرن، الى طريقة علمية كانت انجع واخصب من الاولى، تتلخص باعتبار القانون مؤسسة اجتماعية اضحت مستقلة عن اصولها التاريخية ولا سيما عن الاسباب التي دعت الشارع الى وضعها، وهي تحيا حياتها الذاتية لتقوم بوظيفتها الاجتماعية الجوهرية، في المجتمع الذي يحيط بها، فتلبي حاجاته وتقدم له ما تتطلبه مشكلاته من حلول ملائمة.
    ولتطبيق القانون بفعل هذا المنظار قد عمد الفقهاء العصريون الى طريقة بالتفسير تختلف في غايتها واساليبها عن الطريقة التقليدية السابقة واذ ان الغاية من القانون انما هي في خدمة المجتمع وتذليل متناقضاته، فإن الطريقة الواجب اتباعها لادراك هذه الغاية، لم تكن في التعلق تعلقاً شكلياً بعيداً عن الوقائع الاجتماعية بأسباب القانون الاولى، التي دفعت الى اصداره، وانما باستنباط تفسير له، يتوخى المجتهد في اعتماده احقاق الحق وتحكيم العدل والوجدان في اطار المصلحة العامة العليا.
    وعن هذه القواعد العصرية في تفسير القوانين العادية والدستورية، قد ظهرت مؤلفات عديدة، نلفت النظر من بينها الى ما جاء بالصدد في مؤلف:
    F. Gény, Méthode d Interprétation et Sources en droit privé positif, t. II, Nos 183 et S., seconde édition, tirage 1932.
    3 ـــ ولتفسير المادة 49 من الدستور، على ضوء تلك القواعد، فإنه ينبغي، بادئ ذي بدء التذكر بما نصت عليه المادة 75 من ذات الدستور من:
    «ان المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية» وهذا النص لوحده لكاف لإزاحة المادة 34 من الدستور عن التطبيق في مجال المادة 49، لان المادة 34 مرتبطة بقيام المجلس بوظيفته التشريعية، في حين ان المادة 49 ترسم له كيفية توليه وظيفته الاضافية، وهي انتخاب رئيس الجمهورية، المستقلة، دستورياً ومنطقياً، عن وظيفته التشريعية.
    ولذلك فإنه يقتضي، لهذه الوظيفة الخاصة الموصوفة في المادة 49 ، التي احالها الدستور الى اختصاص مجلس النواب في حين انه كان باستطاعته ان يجعلها من صلاحيات هيئات اخرى، كما حدث في كثير من الدساتير الاخرى استخراج قواعدها، من نصها وحده، وذلك على ضوء المصلحة العامة من جهة وتمشياً مع الضرورات الاجتماعية والمتطلبات السياسية من جهة اخرى.
    4 ـــ هذا وقد فرضت المادة 49 صراحة اغلبية ناجمة «من مجلس النواب»، بحيث تكون الاغلبية المفروضة للدورة الاولى لانتخاب رئيس الجمهورية، الثلثين من عدد اعضاء مجلس النواب.
    وقد اشار النص بعد ذلك، الى انه يكتفي بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي، ولا بد هنا من تطبيق ذات الحكم قياساً واعتبار النصاب في الدورات التي تلي مؤلفاً من مجلس النواب ايضاً، لان المنطق لا يستسيغ الاختلاف في القاعدة العائدة لحالة دستورية متعاقبة، بقيت واحدة في جوهرها.
    5 ـــ ولا ريب في الاختلاف الواقع بين النص العربي للمادة 49 وبين نصها الفرنسي ـــ السابق ـــ اذ ان في النص الفرنسي قد تنظم الاقتراع «باكثرية الثلثين من اصوات مجلس النواب».
    وبالاستناد الى هذا الاختلاف بين النصين، قد احتج القائلون بامكانية تكوين النصاب الخاص بانتخاب رئيس الجمهورية، على اساس الاصوات في مجلس النواب، المنبثقة عن النصاب العادي الموصوف في المادة 34 من الدستوري، وهو النصاب الخاص، كما تقدمت الاشارة اليه، بوظيفة المجلس التشريعية.
    وما يقتضي ملاحظته هو ان هذا الاختلاف بين النصين لم يقع في عهد الاستقلال او في نقل النص الفرنسي الى العربية في عهد الاستقلال، بل كان بادياً منذ البدء والنص العربي، في حالته الحاضرة، قائم منذ ان صدر القانون المؤرخ في 17 تموز سنة 1927 المتضمن الغاء مجلس الشيوخ، ومعنى ذلك ان هذه المادة كانت اذن، في عهد الانتداب، على ما هي عليه في نصها العربي الحالي.
    واذ ان اللغة العربية في ذلك العهد كانت لغة الجمهورية اللبنانية الرسمية، بجانب اللغة الفرنسية، وان هذه الاخيرة لم تكن تتمتع آنئذ بأي ميزة دستورية على اللغة العربية، فلا يصح القول ان الترجيح يعود في حالة الاختلاف بين النصين، الى النص الفرنسي على النص العربي.
    وبعد ان اصبحت اللغة العربية لغة لبنان الرسمية الوحيدة (المادة 11 من الدستور) يكون النص العربي للمادة 49 النص المعوّل عليه وحده دون النص الفرنسي الذي اصبح لاغياً.
    6 ـــ اما التذرع بالمناقشة البرلمانية، التي حصلت في جلسة مجلس النواب، حول التعديل الذي طرأ على الدستور، بموجب القانون الصادر في 17 تموز سنة 1927، فلا يبدو مجدياً، وذلك اولاً لان هذه المناقشة كانت مقتضية، كسائر المناقشات التي سبقت التصويت على الدستور في سنة 1926، وثانياً لان هذه المناقشة قد اقتصرت على امر اكثرية الثلثين في الدورة الاولى والاكثرية العادية في الدورة الثانية، بدون ان تلمح من بعيد او من قريب الى شكل النصاب، مما لا يجعل الحجة الناجمة عن النص العربي في الصيغة التي وضعت فيه، منتقصة.
    فنص المادة 49 باللغة العربية الرسمية التي صدرت فيه في عهد الانتداب ووصلت به الى يومنا هذا، لا يمتنع اذن عن تفسيره اللغوي الطبيعي، وهو ان النصاب الذي وصف يكون قائماً على اساس عدد اعضاء مجلس النواب، لا في الدورة الاولى لانتخاب رئيس الجمهورية وحسب، بل ايضاً وذلك للعلة نفسها في الدورة الثانية لهذا الانتخاب، الذي يجريه المجلس النيابي، بحكم وظيفة انتخابية خاصة به خولها اياه الدستور، بالاضافة الى وظيفته الطبيعية التشريعية.
    7 ـــ وبعد، فهل من الحق والعدل، بل من المنطق السليم والمصلحة الوطنية الصادقة، ان يتم انتخاب رئيس الجمهورية، بنتيجة اقتراع جار على اساس النصاب العادي سيكون في هذه الحالة معبراً عن ارادة نفر من النواب وممثلاً بالتالي لاقلية من الشعب.
    فالقواعد العلمية المتبعة في تفسير القوانين تقضي بان تتجمع الاعتبارات السياسية وأن تبرز التيارات الاجتماعية في كيفية تفهم القوانين، ومن باب اولى، في طريقة احياء الدساتير وتنفيذها.
    ان عملية انتخاب رئيس الجمهورية هي من العمليات الاساسية في حياة لبنان السياسية. لان الدستور قد اراد رئيس الجمهورية رئيساً للدولة وليس لفئة معينة من الناس، وبنزعه كل تبعة عنه قد رفعه الى مصاف الحكم الاعلى لتوحيد كلمة الوطن بين عناصره واحزابه كافة.
    ولا اخاله الا انه قد شعر برهبة هذه اللحظة التي يتم فيها اختيار الرئيس الاعلى اذ نرى الدستور محيطاً اجراء هذه المهمة الرائعة، بسياج من التدابير الواقية:
    ـــ كتحويل المجلس النيابي الى هيئة انتخابية، خصيصاً لهذه الغاية (المادة 75)
    ـــ وذلك مع وجوب «الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة او اي عمل آخر» (المادة ذاتها).
    ـــ وفرض اجراء هذا الانتخاب في مدد مقيدة (المادتان 73 و74).
    ان معظم قوانين العالم قد وصلت انتخاب اعضاء المجالس التمثيلية والادارية، بالاكثرية المطلقة من الناخبين المقيدين في اللوائح الانتخابية، حتى اذا لم ينل المرشح هذه الاكثرية تجدد الانتخاب مرة اخرى، في العملية المعروفة بـ«البالوتاج»، لتتكون الاصوات في هذه الدورة بالاغلبية النسبية.
    فإذا كانت المبادئ القانونية قد تطلبت من النائب ان يكون منتخباً من اكثرية الناخبين المسجلين في الدورة الاولى، فهل من المعقول ان يتم انتخاب رئيس الجمهورية بالاغلبية البسيطة وبالنصاب العادي لكي يكون وليد اقلية من النواب لا تنعكس فيها اماني الشعب ومطاليبه؟
    وليكفي التمعن بالظروف الخطير الذي يمر فيه لبنان في الوقت الحاضر، ولكي يتحسس مجلس نوابه بالمسؤولية الكبرى.