جوزف سماحة
يرد ذكر لبنان عرضاً في خطة جورج بوش الجديدة للعراق. يرد في معرض إشارة الرئيس الأميركي إلى «الملايين من أفغانستان إلى لبنان» الذين ينظرون إلى ما يجري في العراق ويراقبون إذا كانت الولايات المتحدة ستنسحب أمام «الإرهابيين» أم تواجههم. ستواجههم طبعاً، يؤكد، بوش وهي لن تنسحب كما فعلت، بالضبط، مرّة في أفغانستان ومرّة في لبنان!
ماذا يرى اللبنانيون من مقاعد المتفرّجين؟ يطيب للمرء أن يسأل كيف يطلّون على الحلبة العراقية؟ يرى اللبنانيون، في العراق ما يراه معظم الأميركيين والأوروبيين والآسيويين والأفارقة، وما يراه أكثر العراقيين أنفسهم والعرب: الخراب، والفوضى، وانهيار الدولة، والاقتتال الداخلي، وفظائع الاحتلال، و... ومحاولة ترميم سياسة وإعادة بنائها فوق الأنقاض. أي، بالضبط، كل ما يجب عليهم تجنّبه لبلدهم. يرون، أيضاً، فوق الأكاذيب التبريرية للحرب، وآلاف الأخطاء التكتيكية حسب رايس، واعتراف الرئيس نفسه بأخطاء، نيّة الإقدام على المزيد. أكثر من ذلك، يرون العزم الأميركي على نقل الكارثة إلى دول مجاورة.
راهن بوش، في العراق، على مفاعيل «الدومينو»: الحجر يوقع الحجر وهكذا دواليك. إلا أن الحجر الأول انفجر وهو يقع فتطاير، ومعه النظرية كلها، إلى شظايا. لم تتحقق الديموقراطية وتسرِ كمرضٍ معدٍ، ولم يفعل الردع فعله فتدخل الشعوب إلى بيت الطاعة أفواجاً. «الدومينو» الذي «اشتغل» هو ذلك الخاص بالاقتتال المذهبي وبالاختلاف على كل شيء إلا الموقف السلبي من الولايات المتحدة.
يعلن لنا بوش أنه أخطأ، لكنه يمتنع عن تحديد أخطائه: النقص في عدد القوات، المشروع السياسي، تفكيك الدولة والجيش، العبث بالتوازن الداخلي من غير بديل، غموض التوازن السلطوي الجديد، تشجيع النزعات الاستئصالية، عدم تقدير ردود الأفعال لدى الجيران... إلا أن ملامح الاستراتيجية الجديدة توحي أنه يحاول تدارك الأخطاء. يزيد عدد الجنود ويتراجع، عبر التعيينات العسكرية والسياسية والخدماتية والاقتصادية، عن مرحلة بول بريمر. يتراجع بعد فوات الأوان.
لا يسع المتفرّج اللبناني، إذا كان ملمّاً بما حصل في العراق وأدّى إلى ما أدّى إليه، إلا أن يلاحظ أن بوش يتّبع في لبنان المعالم الإجمالية للسياسة التي اتّبعت في العراق. يحصل ذلك بدءاً من تشجيع السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، إلى كسر قواعد التوازن والتعايش، مروراً بالأدوار المنسوبة إلى المؤسسات الأمنية وتحميل البلاد فوق طاقتها على الاحتمال.
إذا كان بوش يذكر لبنان عرضاً في خطابه «الاستراتيجي» الأخير، وإذا كانت سياسته فيه تنمّ عن سلوك «عراقي» في مرحلة الدفع نحو الوضع الراهن، فإن لبنان حاضر، في خلفيّة الخطاب، عبر النهج الذي يعلن بوش أنه ينوي اعتماده إقليمياً.
يريد بوش مداواة حراجة الوضع في العراق بمزيد من العنف وبتوسيع نطاق المواجهة عملانياً، لا سياسياً فقط، لتشمل إيران وسوريا. ولا شك في أن الانعكاس اللبناني لهذا المنحى واضح. لا بل لا شك في أن لبنان يتحوّل، بهذا المعنى، إلى ساحة رئيسية من ساحات المواجهة.
فكما أن بوش لا يرى في العراق حرباً أهلية تفرض معالجة داخلية وإقليمية تسوويّة، فإنه لا يرى، في لبنان، أزمة وطنية داخلية توجب تعاطياً هادئاً يغلّب البحث عن قواسم مشتركة. وإذا كان العراق، في ذهن الرئيس الأميركي، ساحةً مركزية للحرب على الإرهاب، وهو ما يستدعي الذهاب حتى النهاية، فإن لبنان هو، أيضاً، في السياق نفسه. يعني ذلك أن في لبنان ما يستحق، أميركياً، أن تخاض معركة من أجله، وفيه ما يعزز هذا الاستحقاق بحكم التعريف الأميركي للمعركة التي تخاض في بغداد والتي جاءت الاستراتيجية الجديدة لتؤكدها وتدفع بها إلى الأمام.
واللافت أنه عندما تُسأل كوندوليزا رايس عن السرّ في عدم الحوار مع سوريا بشأن العراق، تجيب أن السبب هو عدم رغبة الولايات المتحدة بمقايضة دمشق في... لبنان. والجواب لافت لأن دعاة الحوار مع سوريا الأميركيين لا يمانعون من حيث المبدأ مقايضة، لكنهم يرفضون أن يكون لبنان موضوعها ويرون أن الجولان هو المقصود. بكلام آخر، لا يقبل هؤلاء مكافأة دمشق حيث لا تملك حقاً، أي في لبنان، بل حيث تملك حقاً هو كناية عن أرض محتلّة. لذا فهم يريدون من إسرائيل أن تدفع ثمن التوافق الأميركي ـــ السوري على العراق، فيما رايس، حين ترفض مجرد البحث في الفكرة، توحي أن ما ترفضه هو تدفيع لبنان هذا الثمن.
لا يجوز أن تنطلي هذه المناورة على أحد. فالمرفوض أميركياً هو مبدأ التهدئة الإقليمية مدخلاً من مداخل ضبط التدهور في العراق. ومن يرفض هذه التهدئة يتصوّر أن «الساحة» اللبنانية مجال من مجالات التعبير عن ذلك وعنصر من عناصر التصعيد الذي تبدو الإدارة ميّالة إليه.