جوزف سماحة
حصل المتوقع. كان تشييع بيار أمين الجميل شعبياً وحاشداً. كان كذلك سلمياً وديموقراطياً. إلا أن الأهم هو أن فيه بعضاً من روح «14 آذار». ميزة ذلك اليوم، أكثر من عدد الحضور، وأكثر من الخط السياسي اللاحق، أنه تجمّع يتجاوز مكوّناته، وأنه نجح في استدراج قدرٍ عالٍ من المشاركة العفوية. إن كثيرين من الذين شاركوا في ذلك الاعتصام كانوا يشاركون في عمل عام من هذا النوع لأول مرة في حياتهم. ثم حصل ما حصل.
هذا التقدير لـ«14 آذار» لا يعني إطلاقاً الموافقة على الوجهة. إنه تقدير بارد وموضوعي يفترض فيه أن يكون مدخلاً لنقاش جدي للأزمة وسبل مواجهتها والخروج منها. القول إن في 23 تشرين الثاني بعضاً من روح «14 آذار» يعني أن وقع الجريمة استدعى، رداً عليها، مشاركة من فئات حيادية دفعها الاحتجاج إلى التعبير عن غضبها.
أسوأ ما يمكن أن يصيب حشد أمس هو الدخول في لعبة الأرقام. يكفي القول إن الجمع كان مهيباً وإنه يمثّل شريحة لبنانية واسعة ولا بأس من التسليم بأن المحتجين على الجريمة، حتى لو لم يشاركوا، هم أكثرية واضحة. ولن نصدق قادة الأغلبية إذا زعموا أنهم فوجئوا. إن قدرتهم التمثيلية معروفة وهي ليست موضع نزاع عند أحد ولا عند خصومهم تحديداً.
إلا أن لبنان، اليوم، ليس لبنان «14 آذار». قد يكون أقرب إلى لبنان «14 شباط». في الموعد الأول انطلقت دينامية سياسية جدية أثمرت نتائج نعيشها حتى اليوم. ومع أن هناك قوى كانت تعترض على وجهة «14 آذار» فإنها اضطرت، آنذاك، إلى خوض «قتال تراجعي». أما في «14 شباط» فإن النجاح لم يحالف الذين سعوا إلى تجديد الحيوية نفسها ونعرف، جميعاً، مصير الشعارات التي رفعت والتي لا تزال مطروحة حتى اليوم.
لقد كان متوقعاً من الخطباء أن يحددوا خط سير للأيام المقبلة. أي أن يعتبروا أن الوقت حان لإنهاء المراوحة والتقدم نحو طرح جدي لقضية الرئاسة الأولى، ونحو حل جدي لمسألة نقص التمثيل الحكومي، ونحو ضغط جدي لتطويع العمل البرلماني. لم يفعلوا ذلك. أو هم أرسلوا إشارات تبقى أقل من أن تقدم خطة عمل واضحة وبرنامجاً «نضالياً» يرضي الغلاة والمتشددين. لقد اكتفوا بالإعلان عن انقسام وطني، وتحدثوا جميعاً بلغة «نحن وهم»، وحذروا من أنهم جاهزون للمواجهة، ولم يتوصلوا، كما يفترض بمناسبات جماهيرية من هذا النوع، إلى اقتراح خريطة طريق يجب عليها أن توصلهم وتوصل البلاد إلى نقطة نهاية واضحة.
سيبقى التشديد على المحكمة الدولية عالقاً في الذهن. وهذا الشعار، على أهميته القصوى، لا يكفي وحده لصياغة تصوّر للمصير الوطني اللبناني ولا يوفّر أساساً صالحاً بمفرده لإعادة بناء الاجتماع اللبناني. يبقى شرطاً ضرورياً للتلاقي لكنه شرط لا يلغي غيره من مطالب تطرحها فئات أخرى.
لا جدوى من أي بحث لتحديد حجم ما جرى أمس. إن الانطلاق من أكثر التقديرات تفاؤلاً يدفع إلى الاستنتاج بأن استعراض القوة حصل وأن المطلوب هو تدشين البحث الجدي عن تسوية. ومن المتوقع أن يسعى المعارضون إلى فرض بحث من هذا النوع على جدول الأعمال ولو اقتضى الأمر القيام بتحركات يمكنها أن توازي في «شعبيتها» ما شهدناه في بيروت أمس.
لبنان، اليوم، في لحظة دقيقة. لقد أعادت جريمة الاغتيال التعبئة إلى صفوف القوى الداعمة للسلطة. ويمكنها أن تكون قد أضرّت جزئياً بموقع قوى معارضة. إلا أن ذلك لن يكون كافياً من أجل فرض الانكفاء على هذه المعارضة، وإلقاء الحرم على برنامجها، وحرمانها القوة الكافية لمد شعار «حكومة الوحدة الوطنية» بالزخم المطلوب.