أنسي الحاج
كان لبنان قوّة إقليميّة عظمى قبل أن تدمّره أيديه وأيدي ضيوفه وأيدي شقيقته وأشقائه وعدوّته وأعدائه. كان ــ كما يقول أديب سوري من الشباب ــ ذا إشعاع ثقافي إمبريالي. كان أكبر قوّة أدبية وفكريّة وفنيّة في الشرق الأوسط بإسرائيل وبدونها. والحروب التي حطّمته غيّمتْ على أسطورته الأمبراطوريّة تلك لكنّها لم تستطع أن تمحو آثارها ولا أن تقتلع جذورها ولا استطاع أحد الحلول محلّ هذه الدوحة الغريبة.
ساعد المناخ السياسي والاقتصادي الليبرالي كثيراً في توفير الظروف المؤاتية لازدهار تلك القوّة، لكنّها لم تكن قوّة سياسيّة. معدنها هو ذَهَب المواهب والعبقريّات الفكريّة والإبداعيّة وفضاؤها هو الجمال والحريّة لا عروش السلطة.
لقد دخلتْ قوى الخَلْق في بيروت الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي في عمليّة قَدَريّة عفويّة وكأنها على موعد بعضها مع بعض، رغم تناقضاتها، لصنع أسطورة لبنانيّة حديثة حافزها الانعتاق والانبثاق من تحت ركام التخلّف الدهريّ وغايتها الارتماء في العصر المتقدّم والارتباط به ارتباط الندّ بالندّ عن طريق الجسر الوحيد الصالح لعبور القرون وفوارق اللغة والدين والحضارة والقوّة العسكرية والماديّة: جسر الإشعاع الأدبي والفنّي والفكري. وعلى هامش هذه النهضة ــ التي اعتبرناها ذات يوم أغلى من فتح العرب للأندلس ــ كان ما كان من أنشطة «سياسيّة» و«ثوريّة» لبنانيّة وفلسطينية وعربيّة. على هامش هذه الاندفاعة الخارقة الاستثنائيّة تعلّقت وتشبّثت حركات اغتنمت رحابة ذلك الفضاء التاريخي والروحي المسحور والذي لم يكن مديناً ولا بذرّة من ذرّاته إلاّ لأصالة «عمّاله» وبراءة جنونهم وعمق معاناتهم وجموح أحلامهم.

قبل أسبوع أعلن حسن نصر الله في خطاب أن لبنان أصبح «قوّة إقليميّة عظمى». من عجائب الحروب أن نتائجها تُنسيك مآسيها. الهزيمة تجعلك غير مهموم إلاّ بلملمة الذات، والنصر يجعلك تنسى الأحزان. قوّة صَنَعَتْها الحرب ومطلوب تجييرها للسلم. لا تستطيع القوّة الماديّة أن تبقى ماديّة في شعب يحيا بأحلامه. لا بدّ أن تتحوّل. حديدها يصبح ذَهَباً كما يَشفّ النبات ويصبح فراشة. هذه «القوّة العظمى» حلم بها أنطون سعادة وأصبحت أدباً وشعراً ونبضاً اجتماعيّاً. وتطلّع إليها سعيد عقل فإذا هي فتوحات شعريّة. ولحّنها الأخوان رحباني وغنّتها فيروز فإذا لبنان أجمل من أي لبنان ومن كلّ شيء.
والآن يجب أن يصبح الصاروخ دعامة للحريّة والقوّة، كل معالم القوّة، سياجاً للحريّة. لهذا يمكن ركوب مركب العنف. لهذا يُجازَف بكل شيء. لإنقاذ الحريّة، للعودة إلى الحريّة، لتوسيع أراضي الحريّة.

عند الغَسَق تُمْتَحَن الصدور. الفجر يبيت بين الحنايا قبل أن يلوح على الجبال. تغيب قوّة وتُطلّ أخرى، والعَضَل يَنْفتل إلى روح والكلمة واحدة في جزئيها. هذه الأرض الصغيرة تغصّ بالخيبات وتزخر بالإمكانات. ودائماً كانت تُعوّض خسائرها. بالصمود حيناً وبالجمود حيناً. بالطهارة المستقيمة وبالحيلة والتدليس. خَلْطة الأعراق والأخلاق والأسافل والأعالي. ويهبّ هواء المتوسّط فيَجْمع الأخلاط العجيبة المتنافرة في باقة أشدّ عَجَباً، ومن تنافرها يَنْبلج نوع هجين وفاتن من التجانس. تجانُس المتكارهين وقد حَرَق البغضُ قلوبهم حتّى نقّاها. نقّاها ولو لموسم، لجيل. لا بأس، كسبٌ على القسمة والظلام. كلّما تقاربت طوائف لبنان بعضها من بعض تقاربت قارات وتجاذبت كواكب. كلّما تباعدت عادت إلى كهوف الهمجيّة. إمّا اكتشاف بعضها لمجاهل بعض وإمّا انتحار التعصّب.

على الخطاب السياسي أن يرى أبعد من حشوده المقهورة وأعلى من تلبية ما يطلبه المستمعون. ولننتهِ من نغمة الأرقام. ولا بلد صغير ولا حتى بلد كبير يلعب لعبة الأرقام بدون يقظة مُرّة. بل نريد الخطاب السياسي، من نصر الله إلى عون إلى جنبلاط إلى جعجع، أن يكمل بعضه نواقص بعض لا أن يعمّق بعضه الهوّة مع بعض. عوض إرضاء جمهورنا يجب أن نجمع جماهيرنا. هذا لا يكون بـ«نعر» الآخر ولا بـ«التعليم» عليه ولا بتهديده. حتّى لو كان الناعر محقّاً. الحقّ في المجتمعات المركّبة والهشّة هو الرعاية لا الاستفزاز والتطمين لا الإخافة وكِبَرُ التسامح لا نَفْخ الأوداج. الذي كان يظن أن عبارة مثل «لبنان قوّة إقليمية عظمى» حق حصري لدُعاة الحريّة والسيادة والاستقلال فوجئ بها على لسان الفريق المتهم بالانحياز إلى سوريا وإيران. كلام كهذا يمدّ جسراً بين الفريقين وعليهما التقاطه والبناء عليه. حتّى لو بدت خلفيّته عسكريّة وينقصه البعد المعنوي الذي كان يُعطى لفكرة الإمبريالية اللبنانية الأدبية والفنية والفكرية. تبدأ مدفعاً ومقاومة وتتحوّل روحاً وعقلاً وإبداعاً. المهمّ، حين الكلمة تمتدّ جسراً، فلمَ لا نرى الجسر؟ وغداً، وأمس، قال أو يقول جنبلاط أو جعجع أو فؤاد السنيورة كلاماً يصلح جسراً وعلى نصر الله وعون المسارعة إلى التقاطه والملاقاة عليه. لم يَقُم لبنان على لاءين كما كان يقول جورج نقّاش بل قام على نَعَمين كما لم يقل أحد. هما نعم المسلمة للبنان المستقل عن سوريا ونعم المسيحيّة للبنان المستقل عن فرنسا. نَعَمان نَبَعتا من كِبَر الأخلاق لا من دهاء السياسة. وما يحتاجه لبنان اليوم أكثر ما يكون هو انتصار زعمائه على أنفسهم والتصرّف من وحي الجرح الشعبيّ الضخم الذي ينادي كلّ لحظة من يضمّده بالتنازل والتسامح والشهامة والتضحية. والفريقان من القوّة بحيث يستطيعان، ولو شدّت بهما أيدي جميع الأمم الراغبة في الفتنة.
لبنان قوّة إقليمية عظمى بفضل هذه الروح. وبهذه الروح هو قادر أن يواجه الأقوى منه والمتربّص به. وبهذه الروح، رغم نواقصه ونواقص شعبه، يستطيع أن يظلّ يحتمل جلجلاته وكربلاءاته وينهض منها إلى مزيد من الكبوات والمعجزات.

مشكلة لبنان مشكلة أُبوّة. آباؤه أصغر منه في حين يجب أن يكون هو الطفل المُحْتَضن. آباؤه لم يعرفوا قصّته. لم يقرأوا تاريخه. آباؤه ليسوا أبناءه كما يجب. ولا يستطيع أن يكون أباً لأرضٍ مَن لم يستطع أن يكون ابناً لها.
والعكس.
لبنان في حاجة إلى آباء يُلْـــقون السكاكين وينشرون فوق الــــبلاد أجـــــنحة الســـلام والسخاء.
آباء يُنقذون هذا الطفل الدهريّ من أنفسهم أولاً.