البقاع | ما إن تترك مركز الأمن العام اللبناني في نقطة القاع، وتولّي وجهك نحو الحدود اللبنانية ـــــ السورية (مركز جوسيه)، حتى تترامى أمام ناظريك كيلومترات عدة من المساحات الخضراء في منطقة «مشاريع القاع». مساحات كانت قبل أعوام تشتهر بزراعة الخضار على أنواعها، بدءاً من البندورة والخيار والقثاء، وصولاً إلى الأرضي الشوكي والباذنجان والفليفلة والحر، تحولت اليوم إلى ما يشبه ساحة مقفرة، لا تخرق صمتها إلا قرقعة الطلقات النارية. طلقات متقطعة حيناً ومتلاحقة أحياناً أخرى، يخيل لك وأنت تسمعها أنها ناجمة عن «مشكل». تدقيق بسيط، وسرعان ما تدرك أنها ليست إلا قرقعة بنادق هواة الصيد الذين انتشروا بدلاً من العمال، في «زريعة» البندورة التي كانت هنا، أو في «سحرة» القثاء أو الخيار هناك. لم تعد في تلك المساحة الخضراء أراضٍ مزروعة بالخضار إلا عدد قليل جداً. والسبب هو أن بعض المزارعين في مشاريع القاع تخلوا عن مواسمهم الزراعية بسبب خسائرهم اليومية، واختاروا تأجير بساتينهم وأراضيهم للصيادين الوافدين من المناطق اللبنانية في مثل هذه الأيام.
طوني مطر، أحد مزارعي مشاريع القاع الذين تخلوا عن موسمهم الزراعي لهذا العام، برر السبب بالقول: «لأن الموسم هذا العام صفر وأسعار السوق لا تستطيع أن تعيد إلينا حتى كلفة الإنتاج، أخذت قراراً بتأجير الزريعة لعدد من الصيادين لقاء مبلغ مالي». يقول الرجل انه ليس مضطراً إلى دفع خسائر إضافية من جيبه، مشيراً إلى أنه «خسر الموسم الماضي 500 ليرة على كل شرحة بندورة». كل هذا «قبل أن نتكلم عن ارتفاع أجور العمال للقطاف والتوضيب، وخصوصاً السوريين منهم، حيث تراجع عددهم على نحو لافت وارتفعت أجورهم، أضف إلى ذلك أسعار الشرحة البلاستيكية والنقل والقومسيون والأمراض التي تفتك بشتول البندورة، وغيرها من أنواع الخضار». ويعلّق ساخراً «يعني بدل ما بيع شرحة البندورة 20 كيلوغراماً بخمسة آلاف ليرة فقط، أؤجّر الزريعة ليوم كامل للصيادين بمئة ألف ليرة وهيدا المبلغ مستحيل يكون ربح منها». ثمة أسباب إضافية لتأجير الأراضي للصيادين وهي «أكلاف الزراعة الكبيرة التي لا تقابلها سوق تصريفية ناشطة، وخصوصاً في ظل الأحداث السورية التي تركت أثراً سلبياً كبيراً على حركة التجارة في مشاريع القاع، حيث لم نعد نستطيع تمرير شيء إلى سوريا». مع ذلك، لا يزال مطر يحافظ على 20 دونماً مزروعة بأنواع مختلفة من الخضار، لكن ليس للحصول على «إنتاجيتها»، بل لإبقاء تلك المساحة خضراء فقط، «قد تمثل عنصراً جاذباً للطيور كالفرّي وبعض العصافير الصغيرة التي يرغب فيها الصيادون»، يقول.
أبو يوسف، مزارع آخر في مشاريع القاع، اختار «المهنة» نفسها التي اختارها مطر. فهو لم يعد يرغب في العمل في حقل بالكاد يسدّ بإنتاجه أجور العمال. يقول، وهو يراقب أربعة صيادين في بستان المشمش وفي «سحرة المقتة اللي ما قطفت منها إلا قطفة واحدة بس»، إن التأجير للصيد «مربح، وفي بعض الأحيان أفرض على الصيادين مبلغاً حسب عددهم، أو أترك لهم حرية الدفع بحسب كرمهم واللي بيطلع من خاطرهم».
«ما يقدم عليه مزارعو مشاريع القاع لا يتعدى كونه محاولة منهم لكسب الرزق بغير الطرق التقليدية التي اعتادوها منذ عقود طويلة، من إنتاج الخضار بقصد بيعه للتجار والحسبة، فقد باتت زراعتهم اليوم وسيلة لجذب الصيادين … والطيور. فأبو يوسف، مثلا، لم يقدم هذا الموسم على حراثة وزراعة أرضه البالغة 200 دونم، بل اكتفى بزراعة 50 دونماً من البندورة والخيار والذرة لاستغلالها في الصيد فقط». الفرق شاسع بين الصيد والزراعة «وخصوصاً إذا كان سعر يوم الصيد مش أقل من 100 ألف، وسعر شرحة المقتة عشرة كيلوغرامات بألفي ليرة»، كما يقول.
من جهتهم، الصيادون يحاولون عدم تضييع الوقت والإفادة من المبلغ الذي دفعوه للمزارع، فيصولون ويجولون في البساتين والأراضي المزروعة بحثاً عن أكبر قدر ممكن من الطرائد، وخصوصاً أن الصيد وفير خلال هذه الأيام من فرّي وسفري وسنونو. إلا أن ثمة أراضي يُمنع على الصيادين الدخول إليها، وهي تلك المزروعة بالباذنجان الخاص بالمكدوس، الذي ينفرد حتى اليوم بسعر جيد بالنظر إلى قلة زارعيه، فقلة قليلة من المزارعين أقدموا على زراعته لتوافر المياه لديهم. وحدها حقول الباذنجان تحظى بحماية «غير عادية» من المزارعين، والسبب أن جميع «الناس بتموّن مكدوس لذا فهي بحاجة إليه ولا يزال يطعم»، يختم أحد المزارعين الذي «بذر» أرضه بالباذنجان هذا العام، متأملاً الربح، كما يربح «الزملاء» من الصيد.