اعتمد مصرف لبنان سعر صرف لليرة مقابل الدولار الأميركي 15000 بدلاً من 1507.5 وذلك بإرادة منفردة منه بدون مسوغ شرعي أو سند قانوني، سواء كان هذا السند صادر عن الحكومة أو عن مجلس النواب. وبالاستناد إلى ذلك، أعاد المصرف المركزي تقييم موجوداته ومطلوباته لكن من دون أن تشمل إعادة التقييم كل بنود الميزانية، ولا سيما محفظة الأوراق المالية، الموجودات الناتجة عن عمليات مقايضة على أدوات مالية، بند الموجودات الأخرى، الموجودات الثابتة المادية، النقد قيد التداول، ودائع القطاع العام، وذلك خلافاً لمعايير المحاسبة الدولية وأصول إعادة التقييم.
فروقات الذهب التزامات لا موجودات
بموجب هذا التعديل، زادت ميزانية مصرف لبنان من 288 ألف مليار ليرة إلى 1.522 تريليون ليرة، بزيادة نسبتها 529%. وزادت قيمة ودائع القطاع المالي (المصارف) من 161 ألف مليار ليرة إلى 1.351 تريليون ليرة، بمعدل 839%. وزادت قيمة الذهب بمبلغ 227405 مليار ليرة، وقيمة العملات الأجنبية بمبلغ 199635 مليار ليرة، أي ما مجموعه 427040 مليار ليرة. وهذا المبلغ يشكل فروقات تقييم الذهب والعملات الأجنبية التي تمثّل ديناً على البنك المركزي لصالح الدولة وتسجّل محاسبيّاً في جانب المطلوبات لصالح الدولة، وذلك استناداً إلى المادة 115 من قانون النقد والتسليف.


وأياً كان رأينا في السند القانوني الذي اعتمده المصرف المركزي لتقييم الميزانية على أساس سعر صرف 15000 ليرة مقابل الدولار الأميركي بدلاً من 1507.5 ليرة المعتمد في قيد موجودات المصرف المركزي ومطلوباته حتى 1/2/2023، علماً بأن سعر الصرف الفعلي في السوق تجاوز الـ 80000 ليرة، فإنه يقتضي على المصرف المركزي قيد مبلغ الفروقات البالغة 427040 مليار ليرة، في بند فروقات تقييم الذهب والعملات الأجنبية في جانب الالتزامات المترتبة عليه مضافاً إليها رصيد هذا الحساب الذي بلغت قيمته بتاريخ 31/1/2023 مبلغ 20822 مليار ليرة أو ما يعادل 13812 مليون دولار.
المفاجئ، إن قيمة هذا البند في ميزانية المصرف المركزي أصبحت صفراً بعد التقييم، ما يشكّل مخالفة صريحة لأحكام قانون النقد والتسليف وفضيحة محاسبيّة من العيار الثقيل وهدراً، إن لم نقل سطواً، على حقوق الخزينة اللبنانية والأموال العمومية. فهذا البند كان دائماً دائناً أي لمصلحة الخزينة وكانت قيمته صفراً في جانب الموجودات في ميزانية مصرف لبنان، أي لم يكن أبداً يمثل خسارة على الخزينة، أما بموجب الميزانية الجديدة فقد ترتّب على الدولة دين بقيمة 548248 مليار ليرة لمصلحة البنك المركزي.

العمليات بتاريخها: لا دين عاماً جديداً
وفقاً للميزانية الجديدة أصبحت قيمة التسليفات للقطاع العام 247575 مليار ليرة، أي ما يعادل على سعر صرف 15000 ليرة، مبلغ 16505030257 دولاراً (16 مليار دولار ونصف تقريباً)، في حين كانت قيمة هذا البند تساوي صفراً في 31/1/2023. وقد برّر المصرف المركزي هذا التعديل بأن المادتين 85 و97 من قانون النقد والتسليف تنصّان على أن مصرف لبنان هو مصرف القطاع العام ويعمل كوكيل مالي له، وأنه اعتباراً من نهاية عام 2007 بدأ مصرف لبنان في سداد مدفوعات نيابة عن الحكومة اللبنانية من أصولها الاحتياطية الأجنبية:
(1) مقابل ضمانات نقدية بالعملة اللبنانية بسعر الصرف الرسمي الحالي البالغ 1507.5 ليرة، ويتم تغذيته من ودائع القطاع العام.

باالأرقام

53 مليار دولار
هي قيمة الدين الجديد الذي رتّبه مصرف لبنان على الدولة بموجب التقييم الجديد
427040 مليار ليرة
هي قيمة فروقات الذهب التي كان يفترض بالمصرف المركزي تسجيلها لمصلحة الدولة
9.2 مليار دولار
هي قيمة النقص في ودائع القطاع العام بعد تقييمها إذ انخفضت من 14053 مليون دولار إلى 4762 مليون دولار


(2) مقابل سداد هذا المبلغ في مرحلة لاحقة من قبل الحكومة اللبنانية بنفس العملة الأجنبية وبالتالي فإن إجمالي ودائع القطاع العام المقيمة بالعملة المحلية كما في 31/1/2023 قد تجاوز صافي الرصيد التراكمي للمدفوعات المسدّدة نيابة عن الحكومة اللبنانية بالعملة الأجنبية، وقد مكّن هذا الأمر مصرف لبنان من الاحتفاظ بصافي رصيد ائتماني في إجمالي ودائع القطاع العام وتسجيل هذه الودائع في جانب المطلوبات. وبعد ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية في 1/2/2023 من 1507.5 ليرة إلى 15000 ليرة للدولار الواحد، تجاوزت قيمة مدفوعات المصرف المركزي نيابة عن الحكومة بالعملة الأجنبية، قيمة الضمان النقدي بالليرة اللبنانية، ما أدّى إلى صافي رصيد مدين لصالح مصرف لبنان، وبالتالي يتطلّب عرض رصيد مدفوعات المصرف المركزي نيابة عن الحكومة بالعملة الأجنبية البالغ 16505030257دولاراً أميركياً، في شكل قروض للقطاع العام في جانب الموجودات (في ميزانية مصرف لبنان).
إن مزاعم هذا التبرير، يقع في موقع الذنب والخطأ الجسيم قانونياً ومحاسبيّاً، ذلك أن مصرف لبنان وتطبيقاً لنص المادتين 85 و97 المذكورتين يدفع المبالغ التي يأمر بصرفها القطاع العام من قيمة موجودات القطاع العام لدى المصرف المركزي وبحدودها فقط. كما يدفع فوائد القروض العامة وإيفاء أقساطها من المؤونات التي تكون قد أودعت لديه (من قبل القطاع العام - وزارة المالية بشكل خاص). وبالرجوع إلى البيانات المالية للمصرف المركزي ولا سيما نشراته الشهرية وميزانياته النصف شهرية وتقاريره السنوية، يتبين بوضوح تام، أن ودائع القطاع العام بتاريخ 31/1/2023 كانت 21186 مليار ليرة، أي ما يعادل 14053 مليون دولار أميركي. هذا البند في جانب المطلوبات في ميزانية المصرف، أي إن القطاع العام هو الدائن والمصرف المركزي هو المدين. وفي المقابل، إن بند التسليفات للقطاع العام وهو من بنود الموجودات وكانت قيمته منذ عام 2016 تساوي صفراً، ويعني ذلك بأن القطاع العام غير مدين للمصرف المركزي (باستثناء سندات الخزينة وهذا موضوع آخر)، وبأن رصيد ودائع القطاع العام كانت أكبر من الرصيد التراكمي للمدفوعات التي سدّدها المصرف المركزي نيابة عن الحكومة بالعملة الأجنبية، وقد اعترف المصرف المركزي بذلك، مشيراً إلى أن هذا الوضع مكّنه من الاحتفاظ برصيد ائتماني في إجمالي ودائع القطاع العام وتسجيل هذه الودائع كدين على المصرف المركزي لصالح القطاع العام، وبذلك أدرج هذا الدين في جانب المطلوبات المترتبة عليه.
فجأة، وبعملية محاسبيّة وهمية وخادعة ومخالفة لمعايير المحاسبة الدولية، وخلافاً لقانون النقد والتسليف والقوانين والأنظمة المرعية الإجراء، يعمد المصرف المركزي إلى اختلاق قيود محاسبيّة وهمية لا أساس لها من الصحة فيجعل القطاع العام (الدولة) مديناً له بعدما كان دائناً له، ويجعل المصرف المركزي دائناً للدولة بعدما كان مديناً، وذلك على الوجه التالي :
- زعم مصرف لبنان بأن رصيد مدفوعاته نيابة عن الحكومة بالعملة الأجنبية بلغ 16505 مليون دولار من دون أن يقدم أي معلومات أو مستندات تثبت صحة هذا المبلغ.
- قام المصرف المركزي بتقييم المبلغ المذكور على أساس 15000 ليرة للدولار الواحد، وهذا يخالف معايير المحاسبة الدولية التي قضت بأن تسجل العمليات الجارية بالعملة الأجنبية وفقاً لسعر الصرف السائد بتاريخ حدوث العملية، وبالتالي فإذا كان المصرف المركزي قد دفع فعلاً المبالغ المذكورة أعلاه بتاريخ سابق لـ 1/2/2023، فإن هذه العمليات تكون قد سُجّلت بالعملة اللبنانية بسعر الصرف السائد بتاريخه والذي كان 1507.5 ليرة، ولا يجوز بالتالي إعادة تقييمها بسعر صرف آخر، خاصة أن هذه المدفوعات قد تم دفعها من أموال القطاع العام وهذا ما اعترف به المصرف المركزي.
- لا يجوز أبداً وفقاً لمعايير المحاسبة الدولية تقييم بند من بنود الميزانية غير موجود أساساً في الميزانية إذ إن بند التسليفات للقطاع العام كان رصيده صفراً أي غير موجود.
- كل عملية محاسبيّة لها جانبان مدين (موجودات)، ودائن (مطلوبات)، ولقد تبيّن من ميزانية المصرف بعد التقييم، أن الجانب المدين هو الدولة ولكن لم يتبين الجانب الدائن، وعليه يتوجب على المصرف المركزي بيان الجانب الدائن أي المستفيد من هذه العملية المحاسبيّة.
- لا بد من سؤال وزارة المالية: هل تعترف بهذا الدين المترتب على الدولة؟ وهل علمت بهذا التقييم؟ وهل تعترف بقيمة هذا الدين المستحدث على الدولة؟ وهل سجلت في محاسبتها مدفوعات البنك المركزي عنها في تاريخ حدوث عمليات التسديد؟
- إن رصيد المدفوعات البالغ 16.5 مليار دولار، جرى تقييمه على أساس 15000 ليرة مقابل كل دولار، في حين أن ودائع القطاع العام زادت قيمتها بالليرة اللبنانية من 21186 مليار ليرة إلى 71430 مليار ليرة، أي بزيادة قدرها 50224 مليار ليرة، علماً بأن قيمتها بالدولار نقصت من 14053 مليون دولار إلى 4762 مليون دولار، أي بانخفاض قدره 9291 مليون دولار. لذا، يحقّ التساؤل عن أساس هذا التقييم وهل يمكن التقييم على أساسين مختلفين؟ قطعاً لا يجوز ذلك وفقاً لمعايير المحاسبة الدولية.



التضليل المحاسبي
يتبيّن مما تقدّم، أن المصرف المركزي قام بعملية محاسبيّة تضليلية وخداعية الهدف منها جعل الدولة مدينة له بعد أن كانت دائنة له وتضخيم أصوله دفترياً وبقيَم وهمية لنقل عبء خسائره إلى الدولة وتحميل الدولة نفقات إضافية لصالح دائنين آخرين:
- بموجب ميزانية مصرف لبنان الجديدة أصبحت الدولة مدينة للمصرف المركزي بمبلغ 795824 مليار ليرة، أي ما يعادل 53054 مليون دولار، بعدما كانت دائنة للمصرف بمبلغ 20822 مليار ليرة، أي ما يعادل 14054 مليون دولار، وهذا يعني زيادة حجم الخسائر اللاحقة بالدولة جراء الدين العام وفوائده وخسائر إعادة التقييم.
- لم يقم مصرف لبنان بتقييم خسائره (أو ما يسميه البعض الفجوة المالية) بالتوازي مع تقييم مدفوعاته عن الدولة، بل أبقى هذه الخسائر كما هي مدرجة في الحسابين التاليين: موجودات ناتجة عن عمليات مقايضة على أدوات مالية، موجودات أخرى مختلفة. قيمة هذين البندين 165141 مليار ليرة، أي ما يعادل 109.5 مليار دولار على أساس سعر صرف 1507.5 ليرة. بذلك انخفضت نسبة هذه الخسائر إلى إجمالي الميزانية، من 55.72% إلى 10.84% وباتت تعادل 11 مليار دولار على أساس سعر صرف 15000 ليرة، أي يكون الخفض بقيمة 98.5 مليار دولار.
- لم يقم مصرف لبنان بتقييم موجوداته الثابتة والبالغة في 31/1/2023 ما مجموعه 437 مليار ليرة، أو ما يعادل 290 مليون دولار أميركي، حيث يقتضي أن تصبح بعد التقييم 4349 مليار ليرة، وهذا يخالف أيضاً معايير المحاسبة الدولية في إعادة تقييم أصول ومطلوبات المؤسسات الاقتصادية.
- لم تعرف أسس تقييم بند مطلوبات أخرى والذي كانت قيمته في 31/1/2023 مبلغ 4780 مليار ليرة، فأصبح بعد التقييم 10028 ملياراً أي بمعدل 2.09 (الضعفين تقريباً) أي أن التقييم لم يتم على أساس سعر صرف 15000 ليرة.
- لم تعرف أيضاً أسس تقييم بند رأس المال والذي كانت قيمته 5296 مليار ليرة، فأصبح بعد التقييم 10729 مليار ليرة، أي بمعدل 1.917 (الضعفين تقريباً) أي أن التقييم لم يتم على أساس سعر صرف 15000 ليرة.





من أجل المصارف فقط
أما الأهم والأخطر كان في تقييم العمليات مع القطاع المالي:
العمليات مع القطاع المالي تصنف على نوعين: التسليفات للقطاع المالي المحلي، وودائع القطاع المالي. وبموجب ميزانية مصرف لبنان في 15/2/2023 بعد التقييم تبين أن بند التسليفات للقطاع المالي المحلي وهو من بنود الموجودات (الأصول) لم يجر تقييمه في حين جرى تقييم ودائع القطاع المالي وهو من بنود المطلوبات (الخصوم) كما يلي:
- التسليفات للقطاع المالي المحلي (المصارف) في 31/1/2023 بلغت 17742 مليار ليرة، أي ما يعادل 11769 مليون دولار، وبعد التقييم في 15/2/023 بلغت 17432 مليار ليرة، أي إن المصرف المركزي لم يجر عملية تقييم لهذا البند وهنا يقتضي على المصرف أن يفصح عن أساس التقييم وأن يظهر هيكلية هذه التسليفات لبيان ما إذا كانت تتضمن تسليفات بالعملة الأجنبية مما يقتضي تقييمها أسوة بباقي بنود الميزانية.
- ودائع القطاع المالي بلغت في 31/1/2023 ما مجموعه 160849 مليار ليرة، أي ما يعادل 10699 مليون دولار على أساس سعر صرف 1507.5 ليرة، وبعد التقييم في 15/2/2023 بلغت 1351395 مليار ليرة، أي ما يعادل 90093 مليون دولار، وبلغت فروقات التقييم بالليرة اللبنانية 1190545 مليار ليرة، أي سبعة أضعاف ونصف تقريباً ما يعادل 740%. ولكي يكون التقييم صحيحاً يقتضي التمييز بين الودائع بالليرة اللبنانية والودائع بالعملة الأجنبية وهذا لا يفصح عنه مصرف لبنان.
مصرف لبنان يسطو على المال العام مسجّلاً فروقات الذهب في بند الموجودات


بذلك، يكون مصرف لبنان قد حمّل الدولة خسائره، إذ جعلها مدينة له بمبلغ 796 ألف مليار ليرة، أو ما يعادل 53 مليار دولار، وفي المقابل جعل القطاع المالي (المصارف) دائناً بهذه المبالغ إضافة إلى مبلغ 395 ألف مليار ليرة. المستفيد من عملية التقييم هي المصارف التجارية التي تستطيع الحصول على هذه المبالغ بالليرة اللبنانية لتذويب ودائع المودعين لديها بالدولار الأميركي على أساس 15000 ليرة، بل تحتفظ بدولارات الودائع في خزائنها أو تحوّلها إلى الخارج، ويكون ربحها من هذه العملية يتجاوز 81%، وتكون نسبة الخسارة للمودعين 81%. وبذلك ترتفع نسبة الهيركات على الودائع من 68% إلى 81% أي 13 نقطة إضافية. هذه الزيادة في قيمة الودائع بالليرة اللبنانية ستنطوي على تضخّم في الكتلة النقدية التي سوف يعمد مصرف لبنان إلى طبعها ووضعها موضع التداول لدى البنوك وهذا سينعكس زيادة في الطلب على الدولار وانخفاضاً إضافياً في سعر صرف الليرة وزيادة هائلة في أسعار السلع والخدمات ودفع البلاد إلى مصير مجهول... إنه مسار أسود.

* مدير المحاسبة العامة السابق في وزارة المالية، النقيب الأسبق لخبراء المحاسبة المجازين في لبنان، عضو مؤسس في المنتدى الاقتصادي الاجتماعي