بلغ غودزيلا عامه السبعين هذا العام، وللاحتفال، أنتجت شركته الأم في اليابان «استديو توهو»، فيلماً جديداً بعنوان «غودزيلا ماينس وان» (2023 ـــــ أوسكار أفضل مؤثرات بصرية) من إخراج تاكاشي يامازاكي الذي عاد إلى الأصل وقدّم فيلم غودزيلا الأكثر تقليديةً في الذاكرة الحديثة. كما تستقبل الصالات السينمائية غداً فيلم غودزيلا (أميركي) جديد بعنوان «غودزيلا x كونغ: الإمبراطورية الجديدة» لآدم وينغارد.
يُطرح «غودزيلا x كونغ: الإمبراطورية الجديدة» غداً في الصالات

مع أنّ أفلام MonsterVerse استحوذت على الجماهير الأميركية عام 2014 عبر فيلم «غودزيلا» (متوافر على OSN+) للمخرج غاريث إدوارد، إلا أنّ رحلة أميركا مع هذا الوحش بدأت عام 1998 مع «غودزيلا» لرولاند إيميريش. تبعت هذا الفيلمين ثلاثة أفلام هي «غودزيلا: ملك الوحوش» (إخراج مايكل دورتي ـــ 2019 – متوافر على OSN+)، و «غودزيلا ضد كونغ» (2021 ــ إخراج آدم وينغارد)، والفيلم الجديد الذي يُطرح غداً في الصالات، ما يصل إلى خمسة أفلام صنعتها هوليوود عن هذا الوحش، بترخيص من «استديو توهو». لكنّ الحقيقة أنّ غودزيلا الوحش موجود معنا منذ عام 1954، في اليابان، وإلى اليوم، أُنتج 33 فيلماً من الشركة نفسها «توهو»، وآخرها الفيلم الحائز جائزة الأوسكار!
غودزيلا ليس مجرّد وحش خيالي سينمائي، بل هو أكثر أيقونات الثقافة اليابانية الشعبية شهرةً، وإحدى أكثر الشخصيات الخيالية تأثيراً في القرن العشرين. لقد كان هذا الوحش المتحوّل العملاق، مثالاً للدمار والخلاص، مرتبطاً بمصير اليابان، وبالتالي، العالم أجمع. غودزيلا وحش زاحف برمائي من عصور ما قبل التاريخ، تم إيقاظه وتمكينه بعد سنوات عديدة بواسطة الإشعاع النووي، عبر القصف النووي لهيروشيما وناغازاكي وحادثة «لاكي دراغون 5». ولد الوحش كنوع من تمثيل الخوف الذي شعر به المجتمع الياباني بأكمله بعد قنبلة أميركا النووية في الحرب العالمية الثانية. بدأ الوحش مسيرته على الشاشة الكبيرة كشرير، قادر على تدمير كل شيء في طريقه، وسرعان ما انتهى به الأمر شخصيةً مسيحانية ومخلّصاً من التهديدات الخارجية، والدرع الأخير للبشرية ضد الغزوات الآتية من خارج كوكب الأرض. صدر الفيلم الياباني الأصلي «غودزيلا» للمخرج إيشيرو هوندا عام 1954 (وفي عام 1956 أُعيدت منتجته وإصداره في الولايات المتحدة بتوقيع من المخرج هوندا وتيري مورس)، أي بعد تسع سنوات فقط من إلقاء الولايات المتحدة الأميركية قنبلتها الذرية على اليابان. كان اليابانيون وقتها لا يزالون يتعاملون مع الغبار النووي، والناجون مشوهين بشكل فظيع، والمرض الناجم عن الإشعاع النووي منتشراً، والبلاد محتلّة من جيش أجنبي معاد وقاهر. وكانت أهوال القنبلة الذرية لا تزال ماثلة في أذهان اليابانيين والعالم الذي شهد للمرة الأولى استخدام أسلحة ذات قوة تدميرية لم يسبق لها مثيل. «لو كان غودزيلا ديناصوراً أو أي حيوان آخر، لكان قُتل بقذيفة مدفع واحد. ولكن إذا كان يعادل قنبلة ذرية، فلن نعرف كيف نتعامل معه. لذلك، أخذت خصائص القنبلة الذرية وطبّقتها على غودزيلا» قالتها إيشيرو هوندا مخرج أول فيلم «غودزيلا». كما صرّح منتج الفيلم تومويوكي تاناكا: «كان موضوع الفيلم منذ البداية هو رعب القنبلة. لقد صنعت البشرية قنبلةً، والآن الطبيعة ستنتقم من البشرية».

«غودزيلا» (1954) للمخرج إيشيرو هوندا

تعني كلمة Kaiju اليابانية «الوحش الغريب» لتُشير إلى الأفلام السينمائية والتلفزيونية التي تعرض الوحوش العملاقة. ويُعدّ «غودزيلا» (1954) أوّل فيلم Kaiju. جلس الجمهور الياباني في فترة ما بعد الحرب في ظلام المسرح، وشاهد أول «غودزيلا»، كما شاهد الحاضر، والماضي القريب، ولمحةً عن الغد. غادر المشاهدون الصالة وهم يبكون، لقد أجبر «غودزيلا» الناس على مواجهة مشاعرهم المتعلقة بالقنبلة النووية. تعاطفوا مع غودزيلا كضحية وشعروا أن الخلفية الدرامية للمخلوق، تذكّرهم بتجاربهم في الحرب العالمية الثانية. شكل غودزيلا العملاق ورأسه الذي يشبه سحابة الفطر التي تنتجها قنبلة نووية، وجلده الأسود المحروق والمشوّه، والأشواك الموجودة على ظهره، أعادت إحياء ذاكرة مثخنة للضحايا الناجين من الانفجارات، حتى زئيره الوحشي الأيقوني مثّل ألم ومعاناة الناجين بسبب حالتهم الصحية. مع الأخذ في الحسبان السياق التاريخي للفيلم والأحداث التي ألهمت إنتاجه، يمكن القول إنّ غودزيلا هو رمز لاستقلال أمة وتقرير مصيرها، وهزيمة الإحباط والمعاناة التي تلخّص الإرادة الجماعية لليابانيين، والمطالب الوطنية، والاحتجاجات على التجارب النووية. الفيلم استعارة قاتمة وقوية للطاقة النووية، يُضيء على مَن يقع عليه اللوم ومن لا يقع عليه اللوم لدى التعامل مع مسؤولية اليابان في الحرب. يضع «غودزيلا» اللوم على مسؤولي الحكومة اليابانية المؤيدة لأميركا وبرنامج القنبلة النووية الأميركية، بينما يبرّئ اليابان عبر تركيزه على عامّة الشعب الذي وقع ضحية القنابل النووية وغزو الوحش. بعد أكثر من 60 عاماً، تحوّل غودزيلا إلى شعار وطني، وخصوصاً عندما حصل في عام 2015، على الجنسية من الحكومة اليابانية، وعُيِّن سفيراً رسمياً للسياحة. إن إضفاء الشرعية على غودزيلا، يثبت تحوله خلال السنوات الطويلة من رمز حرفيّ للصدمة، إلى رمز للفخر الوطني. وهذا موجود في جوهر الفيلم الأول الذي جسّد الوعي الجماعي وروح عصره.
بالعودة إلى الحاضر، وبالتحديد إلى «غودزيلا ماينس وان» (2023)، قلّة كانت تراهن على نجاح الفيلم عندما أعلنت «شركة توهو» عنه عام 2022. بلغت ميزانية الفيلم 15 مليون دولار، وكان فريق المؤثرات الخاصة بالفيلم يتكون من 35 فناناً فقط. لا يمكن مقارنة ذلك مع ميزانيات أفلام منافسيها في هوليوود، بما في ذلك شركة «مارفل»، إذ بلغت ميزانية «حراس المجرة الجزء الثالث» 250 مليون دولار، وكان ينافس فيلم «غودزيلا ماينس وان» على جائزة الأوسكار.
سيتعمّق الفيلم الملحمي الجديد في تاريخ هذه الوحوش وأصلها وأسرار جزيرة «الجمجمة»


أفلام غودزيلا الحديثة الأميركية أو اليابانية مثيرة للاهتمام بسبب الطريقة التي أصبح فيه صنّاع الأفلام المعاصرون أكثر قدرةً على إنشاء مشاهد مذهلة بسبب التكنولوجيا والمؤثرات البصرية المبهرة. لكن فيلم المخرج تاكاشي يامازاكي الجديد «غودزيلا ماينس وان»، يعيدنا إلى أصل الوحش العملاق، ليروي قصة مدمّرة تُعيد اكتشاف الفيلم الأول عام 1954. تبدأ القصة في نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما يدرك الطيار الكاميكازي كويتشي شيكيشيما (ريونوسوكس كاميكي) أنّ اليابان على وشك خسارة الحرب. يرفض قتل نفسه، ويهبط بطائرته على جزيرة في قرار يجعله يشعر بأنّه جبان. وبعدما هاجم غودزيلا الجزيرة، تجمّد كويتشي بدلاً من إطلاق النار عليه، فيموت الجميع ويحمل الطيار عبئاً مزدوجاً من الذنب خلال السنوات المقبلة، وخصوصاً عندما يعود غودزيلا ويهاجم البر الرئيسي لليابان.
غالباً ما تأتي صورة غودزيلا في فيلم «غودزيلا ماينس وان» مباشرة نحونا، يحدّق بنا بفك عملاق مفتوح وعيون صفراء شيطانية. هو وحش مشعّ، يطلق أشعة زرقاء جليدية من المسامير الموجودة على ظهره أثناء مطاردة الحشود المرعوبة في شوارع طوكيو. نجح تاكاشي يامازاكي في إبهارنا بالمؤثرات البصرية رغم انخفاض الميزانية، لكنّ نجاحه الأكبر كان في إعادة خلق هذا الوحش من جديد، وإعادته إلى جذوره، وإعادة إحياء الماضي البعيد، وتذكيرنا بأن الحرب النووية التي خلقت غودزيلا، لا تزال موجودة اليوم.
من اليابان إلى الولايات المتحدة والعالم، تتحضّر الصالات ومنها اللبنانية غداً لاستقبال فيلم «غودزيلا x كونغ: الإمبراطورية الجديدة» لآدم وينغارد. عاد العملاقان غودزيلا وكينغ كونغ لمواجهة تهديد خطير، لكن هذه المرة جنباً إلى جنب. بعدما دمّر الاثنان بعضهما في فيلم «غودزيلا ضد كونغ» (2021)، سيعودان في مغامرة سينمائية جديدة تضعهما في مواجهة تهديد هائل لعالمنا، ما يتحدّى وجودهما ووجودنا. سيتعمّق هذا الفيلم الملحمي في تاريخ هذه الوحوش وأصولها وأسرار جزيرة «الجمجمة»، بينما يكشف النقاب عن المعركة الأسطورية التي ساعدت في تكوين هذه الكائنات غير العادية وربطها بالبشرية إلى الأبد.

* Godzilla x Kong: The New Empire بدءاً من الغد في الصالات اللبنانية