في كل مرة يومض شعار شركة A24 على الشاشة، نتأكد أننا أمام شيء لا يمكن التنبؤ به. فيلم بعيد عن المعتاد، ينتظرنا في الساعة أو الساعتين التاليتين. لا يختلف الأمر مع أحدث إبداعات الاستوديو المستقل الأميركي، الذي أصبح أسطورياً منذ أن تأسّس عام 2012. جديد الشركة هو أحلام خيالية ومتنوّعة، مجنونة تماماً كما دائماً. ورغم أن هناك الكثير من التفاهة في الأفكار، إلا أنها لا تزال أصيلة. طبعاً، ليست المرة الأولى التي يتسبّب فيها أحد أفلام A24، في حدوث ارتباك في الأذهان، لكنه لم يكن معقداً ومتعدد الطبقات وسوريالياً وكئيباً وفكاهياً بما فيه الكفاية، بل كان كل شيء مبالغاً فيه وقليلاً جداً في الوقت نفسه.

منذ اللحظات الأولى لفيلم «سيناريو الحلم» (2023)، نشعر لوهلة أننا أمام فكرة تنتمي إلى خيال تشارلي كوفمان وإخراج سبايك جونز أو ميشيل غوندري («إشراقة أبدية لعقل نظيف»/ 2004)، «أدابتيشن»/ 2002، «أن تكون جون مالكوفيتش»/ 1999، «أفكر في إنهاء الأمور»/ 2020). هي مزعزعة للاستقرار، تنتقل من السوريالية إلى العنف ثم الفكاهة. لكنّ أحلام المخرج النروجي كريستوفر بورغلي، ليست بعبقرية هؤلاء، لأنها تصطدم بمقولة ديفيد لينش «لا تتمثل الأحلام عادة بشكل جيد في السينما، فهي إما شاعرية جداً أو واقعية جداً».
في عام 2022، قدم بورغلي فيلماً غريباً بعنوان «سئمت نفسي»، عبارة عن كوميديا سوداء عن شخصيتين تقفان عند نقطة معيّنة على تقاطع الجنون والغباء. وقتها، قدم النروجي سخرية شديدة عن الهوس المعاصر للحصول على «الشهرة عبر الإنترنت». كانت الحبكة بارعة، تكتشف الجوانب المظلمة المتزايدة لما يسمى «الشهرة» بلا أي جدارة أو موهبة حقيقية. هذه الفكرة هي القوة الدافعة لفيلمه الجديد «سيناريو الحلم»، مع شخصية تقترب من الحماقة، لكنها أكثر ودية وجديرة بالتعاطف. والخبر هو أنّ هذه الشخصية التي تجمع ما بين الدراما والفكاهة، يجسّدها نيكولاس كيدج، ذلك الممثل الذي كان ممتازاً، قبل أن يصبح رعباً حقيقياً على الشاشة. وعبر الأفلام الأخيرة التي يشارك فيها اليوم، يسعى مرة أخرى إلى التميز. وبطبيعة الحال هو أفضل شيء في فيلم بورغلي الجديد. يثبت لنا كيج (ملك المبالغة)، إنه ماهر وعظيم مرة أخرى، إلى درجة أنّه يصعب أن ننظر بعيداً عن الشاشة عندما يظهر.
يسير بول ماثيوز (نيكولاس كيدج)، على الخط الرفيع بين أزمة منتصف العمر وبين الراحة في حياته والرتابة التي يشعر بها. هو يدرّس علم الأحياء في إحدى الجامعات للطلاب غير المتحمّسين، ويعيش منذ 15 عاماً مع زوجته جانيت (جوليان نيكلسون) وابنتيه، في البيت الكبير الذي ورثته زوجته. وتحت غطاء الهدوء هذا، يتخمّر إحباطه. هو ينفجر من الغضب بسبب نجاح الآخرين، ويشعر بالاستياء لأنّ زميلاً أكثر نجاحاً منه، لم يدعه أبداً لتناول العشاء مع المثقفين المعترف بهم. يريد بول أن يكون شيئاً ما، وبطريقة غير متوقعة على الإطلاق، تتحقّق رغبته. تبدأ ابنتاه والمقربون منه بالحلم به. يحضر في أحلامهم كأنّه لا شيء. حضور غير مبالٍ في مشاهد الأحلام التي تراوح بين الارتباك والعنف الشديد. بعد ذلك، يختبر الغرباء الشيء نفسه. لسبب غير مفهوم، يسير الأستاذ اللامبالي عبر أحلام الملايين من الناس، ومن دون أن يفعل أي شيء يستحق ذلك، يصبح من المشاهير على الفور. بعد الارتباك الأولي، يدرك بول أنه يستطيع الإفادة من الموقف والحصول على الاعتراف الذي يرغب فيه. بالطبع، لا تتطور الأمور كما يريد. بعدما ارتفع بول بسرعة الصاروخ، يهبط نحو الأرض بسرعة شديدة، إلى درجة أنه حتى لو تم سحب الفرامل أو اعتراضها، فسيكون من المستحيل تجنب الاصطدام.
يحتوي «سيناريو الحلم»، على عدد من العناصر التي تجعله قريباً من موجة الأفلام السائدة التي تنضح بالاستعارات المراوغة عن الفن والشهرة المجانية و«ثقافة الإلغاء» والمشكلات الاجتماعية الحديثة التي ظهرت مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي و«الصوابية السياسية» و«ثقافة الاستيقاظ» (ثقافة الووك). هذه «الحداثة الجديدة»، التي تسمح لنفسها بالسخرية من تجاوزات الصوابية السياسية، لا تزال غير ناضجة، ينقصها الكثير من العمق في التعامل مع موضوعاتها، كما أنها مبتذلة وسطحية جداً في بعض الأحيان، تماماً مثل فيلم «سيناريو الحلم» الذي لا يتبقى منه سوى الـ «ميمات»، والمشاهد القصيرة المضحكة. «سيناريو الحلم» وجبة خفيفة، موصى بها، لكنّه لا يتمكّن من المساهمة بأي شيء جوهري في موضوعاته العديدة عن الاستهلاك، والمؤثرين على مواقع التواصل، ووسائل الإعلام، والرأسمالية الحديثة، والإعلانات، ونظريات كارل يونغ عن الاضطراب النفسي واللاوعي الجماعي.
يطرح قضايا الاستهلاك والمؤثرين على مواقع التواصل، ووسائل الإعلام ونظريات كارل يونغ


يبقى الفيلم بأفضل حالاته طالما ينظر إلى الواقع بنظرة ساخرة، وطالما يطلق العنان للخيال والتشويق والرعب، وإيصال الفكرة التي يقدمها عن استراتيجية التسويق الجديدة غير الأحلام. لكن كريستوفر بورغلي لم يستطع التوقّف عند هذا الحد، بل أراد توجيه بعض الرسائل التي لا حاجة لنا ولا الفيلم إليها. في الدقائق الأخيرة، عُرض المغزى الأخلاقي للقصة بوضوح شديد وبكثافة، يفسد كل شي. لم يكن هذا ضرورياً لأنّ ما سبق ذلك، كان يمكن البناء عليه. يقدم «سيناريو الحلم» تجربة مسلية، إذا تعاملنا معه على أنه كوميديا سوريالية أو كوميديا سوداء. ولكن بمجرد أنه أصبح أكثر شمولياً، اتجه نحو السطحية، ولم يستطع أن يُظهر عمق محتواه، كما أنه يمكن اتّهامه بحق بالتشتّت.
عادة ما تدفع مثل هذه الأفلام الثمن في نهايتها، عندما لا تستطيع أن تربط الحبكة الغريبة بشكل مُرضٍ. وهذه هي الحال إلى حد ما في «سيناريو الحلم». إذ تبدو نهايته كأنّها حيكت على عجل، فتحوّل الفيلم من الخيال إلى الخيال العلمي. ومع مشهده الأخير المؤثر والرومانسي إلى حد ما، يصل الفيلم إلى نهاية تصالحية مع مشاهديه ولكنها لم تكن كافية أبداً.

* Dream Scenario
على OSN+