يواجه لبنان أزمتين قوّضتا قدرته على توفير الغذاء لسكانه. الأولى هي الأزمة الاقتصادية الناجمة عن انهيار العملة المحلية أمام الدولار، والثانية هي الأزمة الناتجة عن الحرب في أوكرانيا، خاصة أن أوكرانيا وروسيا تستحوذان على مساحات زراعية تُعدّ الأكبر في العالم وتنتجان حوالي 30% من حجم الإنتاج العالمي. هاتان الأزمتان تسبّبتا في ارتفاع أسعار الغذاء ونقص المحاصيل الأساسية في أجزاء من وسط آسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا. بيد أن الأزمة الأكبر هي تجاهل الحكومات المتعاقبة للثروة الزراعية التي تملكها سهول البقاع الشاسعة وللمبادرات الجدية التي تقوم بها مصلحة الأبحاث الزراعية في تل عمارة.
مبادرة زراعة البذار
فقد أكّد رئيس مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية ميشال أفرام أن المصلحة تملك 1700 دونم من الأراضي الزراعية، موزّعة بين تل عمارة وتربل وكفردان. وقد استثمرت المصلحة هذه الأراضي وزرعت فيها القمح الطريّ، فأنتجت البذار المخصّص لهذا القمح منذ عقود، لتنتج في عام 2018 حوالي ألف طن من بذار القمح الطريّ والقاسي بنوعيّة ممتازة، بيعت للمزارعين.
اهتمّ المزارعون في حينه بزراعة القمح، بالتعاون مع المصلحة، وتم إنتاج نحو 160 ألف طن من القمح بينها 135 ألف طن من القمح الطريّ، تُستخدم في صناعة الخبز. لكن منذ سنتين، وبعدما توقفت الدولة عن دعم القمح، طُلب إلى وزارتَي الاقتصاد والمالية شراء المحصول بثلث السعر العالميّ، لكنّهما رفضتا، على الرغم من أنّ هذه الزراعة وصلت إلى إنتاج 160 ألف طن من القمح في لبنان. وباع المزارعون محاصيل القمح هذه في السوق، وأبلغوا المصلحة عزوفهم عن زراعة القمح لأنّ الدولة لم تشجّعهم.
أنتج المزارعون عام 2018 نحو 160 ألف طن من القمح بينها 135 ألف طن من النوع الطريّ


وخلافاً للشائعات السائدة عن القمح الطريّ، وعدم إمكانية زراعته في لبنان، يؤكد أفرام أن المصلحة ما كانت لتنتج هذا الكمّ الكبير من أطنان القمح لولا سهولة زراعته. فبسبب عدم اهتمام الدولة بدعم زراعة القمح، المادة الاستراتيجية لأيّ بلد في العالم، واعتمادها على استيراده، اقتصرت زراعة القمح محلياً على القمح القاسي لإنتاج المونة (البرغل وفريك...)، وتحوّل معظم المزارعين إلى منتجات زراعيّة أخرى. لكنّ المصلحة لم تكفّ عن زراعة بذار القمح بل استمرّت في زراعتها حتى اليوم. فهي سلسة مترابطة وراثياً تتكرّر سنوياً للحفاظ على الأصناف وصيانتها أو إدخال أصناف جديدة متفوّقة أو أكثر تأقلماً. وفي حال التوقف تفشل زراعة البذار ولن تتمكن المصلحة من إنتاج البديل عنها إلا بعد مضيّ عشر سنوات.

نحو مجلس الوزراء
لم يفقد أفرام الأمل من الاستجابة فقد واصل متابعته لقضية زراعة القمح. ورفع منذ بضعة أيام إلى وزير الزراعة عباس الحاج حسن طرح مشروع حول الأمن الغذائي ليتم عرضه أمام مجلس الوزراء لدراسته. يقترح هذا المشروع زراعة القمح الطري والقاسي بين البقاع وعكار ومرجعيون والنبطية ويمكن تنفيذه خلال السنوات الثلاث المقبلة، وينصّ على أنه «في حلول عام 2025، تنتج المصلحة بالتعاون مع مراكز دولية تُعنى في هذا المجال أبرزها منظمتا إيكاردا وأكساد ومع المزارعين حوالي 250 ألف طن من القمح أي نحو ربع حاجة السوق اللبناني»، موزّعة وفق الجدول المرفق.


أما عن التكلفة الإجمالية للسنوات الثلاث فتبلغ مليون دولار، «وهذه كلفة زهيدة نظراً إلى سعر كميات المواد وتكلفة إنتاجها، وهذه الكميات سوف تُخزّن في مستودعات المصلحة لتباع للمواطنين والمزارعين عام 2025» على حدّ قول أفرام. لافتاً إلى أن المصلحة لا تنتظر شيئاً سوى الموافقة من قبل مجلس الوزراء على المشروع كي يغدو نافذاً.
كما شدّد أفرام على أهمية هذا المشروع في تأمين أصناف واعدة من الحبوب وإكثارها كالنجيليات (قمح طري، قمح قاسٍ، شعير) والبقوليات (حمص، فول، عدس وأعلاف) وفي إعادة التوازن للأمن الغذائي، خصوصاً أن لبنان يستهلك نحو 500 ألف طن من القمح سنوياً وأضيف إليها 400 ألف طن بعد النزوح السوري إليه.
يؤكد أفرام على أهمية المشروع «لأنه يجب علينا تأمين احتياطي من القمح في ظلّ هذه الأزمة العالمية، خصوصاً أن دولاً عديدة تحجم عن تصدير القمح»، مشيداً في الوقت نفسه بجودة القمح اللبناني «خصوصاً أنّه قمح مؤصّل ويتمتع بنوعية ممتازة تفوق تلك المستوردة من الخارج، وعلاوة على ذلك فإن كلفة زراعة القمح في لبنان أقلّ بكثير من كلفة استيرادها».