الفسيفساء الدمشقية سينمائيّاً وكتاب عن بدايات التمرّد

في زمن بات الأدب النسائي موضة رائجة، تقف صاحبة «ليل الغرباء» و«رحيل المرافئ القديمة» على حدة وحولها هالة من الصور والكلمات. طبعة تاسعة من «كوابيس بيروت»، و«الرواية المستحيلة» ينقلها سمير ذكرى إلى الشاشة، وكتاب تعود فيه إلى شبابها... ما زالت «تتقدّم كالإعصار» كما وصفها ذات مرّة غسان كنفاني

خليل صويلح
نحتاج إلى أجندة خاصة للقبض على مواعيد غادة السمّان في «أعمالها غير الكاملة». في واجهات المكتبات، يثير انتباهنا وشهوتنا غلاف جديد يحمل اسمها مدموغاً بلوغو «البوم» طائرها الأثير. في «ستأتي الصبية لتعاتبك: بدايات زمن التمرّد» (منشورات غادة السمّان)، تؤرشف صاحبة «شهوة الأجنحة» حوارات أُجريت معها في بدايات حياتها الأدبية. حوارات
أقرب إلى الاستجواب والمحاكمة لنصّ متمرّد كان بمثابة الانفجار البلاغي، ما جعل غسان كنفاني يقول عنها في حوارٍ معها: «تمشي وسط زوبعةٍ ما، متحدية، متحدية، أقوى من أي إعصار». قبل فترة، خصّص إبراهيم محمود كتاباً كاملاً عن بومة غادة السمان في «حدثتني البومة، قالت» (دار الطليعة ـــــ 2009). يشتبك الناقد السوري مع سيمياء «الرقص مع البوم» في مقاربات جمالية محمومة وهذيانية. وإذا به يحصي نحو 170 عنواناً تورد فيه السمان البوم كشريك لا مناص منه في أحلامها ومكابداتها وشهواتها، في أقصى حالات التوحد والعزلة والخيبة. «علاقة جنون طقسية وتضاريسية، أكثر منها حلفاً جمالياً لتصحيح مسار التاريخ». تقول غادة السمان في أسباب تعلقها بهذا الطائر: «البوم مخلوق جميل العينين، غامض النظرات، متوحد وحزين، يطير ليلاً إلى حيث لا أحد يدري، يبدو لي أحياناً كأنه وحيد في هذا الكوكب... مثلي». انطلاقاً من هذه الفكرة كتب غالي شكري ذات يوم «غادة السمان بلا أجنحة»، بوصفها طائراً بعدة أجنحة تحلّق في فضاء الحلم والكوابيس. هكذا اقتحمت صاحبة «اعتقال لحظة هاربة» خطوط التماس من دون أن تعبأ بالألغام، في محاولة مبكّرة لإشعال نار الأسئلة المغايرة في الحطب اليابس. كان قصدها استعادة الجملة الغائبة في الكتابة العربية.
«كوابيس بيروت» أيضاً تعود إلى الواجهة في طبعة تاسعة (منشورات غادة السمّان)، لنتذكر ربما، مرةً أخرى، نبوءة غادة السمان عمّا سيصيب هذه المدينة الملعونة بجراحها السيزيفيّة التي لا تندمل. من ضفة أخرى، تسترعي انتباهنا ترجمة فرنسية لكتاب «الجنس في أدب غادة السمان» الذي وقّعه بالعربية قبل سنوات وفيق غريزي في ترجمة أنجزتها كنزا باربو ـــــ بورجا، إضافةً إلى ترجمة إنكليزية أنجزتها ريم زهراء لكتاب «الأبدية لحظة حب»Arab Women In Love & War: Fleeting Eternities.
في «بدايات زمن التمرّد» تعيد السمان نشر نص كتبته في أحد الأعداد الأولى من «زوايا» البيروتيّة (جريدة الثقافة الحيّة للشباب العربي)، بعنوان «رسالة إلى شابة اسمها غادة السمان» تتذكر فيه الصبية العشرينية التي كانت تقود دراجتها النارية في شوارع بيروت، في مغامرة جريئة تتحدى الأعراف المستقرة، وقد أهدت الكتاب «إلى الصبية التي كنتها ذات يوم، والتي تأتي باستمرار لتحاسبني كي لا أخون أحلامها وتمردها وجموحها». تصف غادة السمان كتابها هذا بأنه «محضر تحقيق لمحاكمتي». هكذا تهدد الصبية التي في داخلها أي محاولة للانزلاق أو «خيانة الوصايا» القديمة التي وضعت كتاباتها ومواقفها فوق أرضٍ صلبة.
لعلنا سنلتقي تلك الصبية قريباً في «الرواية المستحيلة: فسيفساء دمشقية»، من خلال نسخة مرئية بتوقيع المخرج السوري سمير ذكرى، في أول مقاربة سينمائية لروايات الكاتبة تحت اسم «حرّاس الصمت» (إنتاج المؤسسة العامة للسينما). في الشريط الذي انتهى تصويره منذ أيام، سنتعرّف عن كثب إلى شخصيات غادة السمّان في شوارع دمشق الخمسينيات، وربما إلى شيء من سيرتها المتخيّلة... وسنلتقي زين (نجلاء خمري) وهند (لميس أبو أسعد) اللتين تتناوبان على السرد في عائلة دمشقية كبيرة. كل صبية تجد ذاتها في تمرّد على القيم الذكورية الراسخة، وعلى «حرّاس الصمت» وحماة الممنوع والمحرّم. لكن هل سيتمكن الشريط من اختزال هبوب الذكريات في ساعة ونصف؟

وفاءً لأحلام «الصبية العشرينية التي كانت تقود دراجتها النارية في شوارع بيروت»

يجيب سمير ذكرى: «كنت مضطراً إلى أن اختزل 800 صفحة في 50 صفحة، وأعتقد أنها ورطة حقيقية». في «الرواية المستحيلة»، تستنجد السمان بالذاكرة من جهة، وترفض طغيانها من جهةٍ ثانية. تقول: «كنت مخطوفة على حاجز الذكريات ومتحالفة مع خاطفي... هكذا وعيت أنني كدمشقية معجم للتعابير والأمثال الشامية التي ربتني جدتي عليها. لكنني معجم شامي يمشي على قدمين». وتعترف غادة بأن دمشق عصيّة على الكتابة وتحتاج إلى أكثر من كاتب وكتاب. ههنا معجم روائح وأشواق ورسالة وجد طويلة مقيمة في الضلوع. نبحر في سطور الفسيفساء الدمشقية، فتسحبنا رائحة الياسمين والفل والجوري والنارنج والهال إلى أسوار بيت دمشقي، تمتزج فيه أنواع العطور «بصوت آذان الفجر من الجامع الأموي القريب».
هل ستغامر غادة السمان وتزور دمشق التي غادرتها منذ عقود، ولم تعد إليها مرةً؟ أم سيظل حنينها إلى مدينتها عبر الحبر وجنون الأصابع وحسب. تكتب في «الرواية المستحيلة»: «عبر القارات أرى تلك الصخرة الشاهقة المدببة في الربوة عند مدخل دمشق وعليها العبارة الأحجية «اذكريني دائماً» التي لا يدري أحد من تسلّق الوعر لتسطيرها لحبيبته بالدهان الأحمر ومتى؟ وطالما حلمت في غربتي بأنني أنا الذي يتسلق تلك الصخرة ويكتب عليها لدمشق «اذكريني دائماً».