الكاتب الجزائري الإشكالي يحوم حول «شارع إبليس»

أحرقت كتبه في ساحة سيدي بلعباس، وأقيل من منصبه على رأس «المكتبة الوطنية الجزائريّة» بعد محاضرة لأدونيس تنتقد الدين. وسط دوامة الخيبات والهزائم والشهوات المقموعة، تأتي روايته الجديدة قراءة سوسيولوجية لتحولات الشارع العربي الحائر بين الأصولية وتسليع الجسد. إضاءة على كتابة تشتبك مع المحرّم والمستور

دمشق ـــ خليل صويلح
هل أتى أمين الزاوي (1956) إلى دمشق لتعقّب آثار أبطال روايته الأخيرة «شارع إبليس» التي تجري بعض أحداثها في دمشق؟ يضحك الروائي الجزائري «لقد تغيّرت الصورة كثيراً بين الأمس واليوم. هناك فرق كبير بين زمن عبد القادر الجزائري، هذا المتصوّف الكبير الذي دٌفن في دمشق، وزمن النخاسة المغاربية التي تُصدَّر اليوم تحت مسميات براقة».
في «شارع إبليس» (الدار العربية للعلوم، بيروت ــــ منشورات الاختلاف، الجزائر) التي استوحى صاحب «الخنوع» عنوانها من اسم شارع معولم في الرياض، قراءة سوسيولوجية معمّقة لتحولات الشارع العربي الحائر بين أصوليات مغلقة على ذاتها، وحالات تسليع جسدي وأيديولوجي تُعمّم وتُعلّب بإضفاء شرعية مزيّفة على وجودها. هي في الواقع دمغة مزوّرة عن حداثة متفلتة من شروطها الأصلية. يروي إسحاق بطل الرواية سيرة ملتبسة عن انتهاك الجسد في ظل شعارات وهمية استثمرها بعض «مناضلي» الثورة الجزائرية لتحقيق رغباتهم الشخصية. هكذا يتماوج السرد بين منعطفات كثيرة، تنبش أسراراً مدفونة، وتحوك نصاً آخر ينتهي بصدمة. في دمشق التي هاجر إليها من وهران، سيكتشف إسحاق فضاءً شهوانياً آخر، قبل أن يلتحق بأحد الفصائل الفلسطينية في بيروت، ويعمل في مستشفى، ليكتشف أن «غرفة الموتى» مكان سري لبيع الأعضاء البشريّة.
لعلها «وليمة الأكاذيب» وفقاً لرواية أخرى له صدرت نسختها العربية أخيراً عن «دار النايا» (دمشق)، وهي الدار نفسها التي أصدرت أيضاً «عودة الأنتلجنسيا ــــ المثقف في الرواية المغاربية» (راجع المقالة أدناه). الرواية المكتوبة بالفرنسية تناوش مناطق محظورة، في تجوال عمودي لخيبات وهزائم وشهوات تتحكم بالعقل العربي على خلفية انقلابات عسكرية وانقلابات في القيم... وسؤال عن مفهوم العلمانية واضمحلال الثقافة الروحية. وإذا بالأكاذيب هي التي تصنع الذاكرة وتُرمّمها بالوهم والزيف والخوف.
كان كاتب ياسين يقول إنّ اللغة الفرنسية «غنيمة حرب». أما أمين الزاوي فيبرر لجوءه إلى هذه اللغة في الكتابة بأنّها «مستعمرة محررة». ذلك أن هذه اللغة تسمح للكاتب بالذهاب أبعد على مستوى العلاقة مع القارئ «لا أراهن على القارئ الفرنسي بل على اللغة الفرنسية بوصفها جسراً إلى لغات أخرى». ويضيف موضحاً «أشبّه علاقتي بالعربية بحليب الأم. أما الفرنسية فهي الحليب الاصطناعي. هذه الازدواجية التي أعيشها بين لغتين تتيح لي خلخلة بنى السرد التقليدية، والإنصات إلى موسيقى نص آخر، وتمثّلها بنائياً وحكائياً في متن النص العربي. إنني كمن يحلّق بجناحين من دون أن يفقد توازنه». هكذا استقبلت الصحافة الفرنسية رواية «غرفة العذراء المدنسة» (دار فايار، باريس، 2009) باعتبارها تطويراً لافتاً في السرد الروائي يمزج المخيال الأمازيغي والعربي بنول فرنسي مختلف. هنا، لا يتردد الزاوي في هتك الحياة السريّة للجماعات الإرهابية من منظور آخر. معسكرات الإرهاب في مسار الرواية، تحفل بممارسات «غير تقليديّة»، إذا جاز التعبير، مثل اللواط من جهة، والمخدرات والعنف الجسدي من جهة أخرى، إضافة إلى حمولة سردية لا تعبأ بقوانين اللغة المحنّطة، أو بالتابو الاجتماعي والديني.
يقول صاحب «السماء الثامنة» (2003) ــــ تلك الرواية التي أحرق نسخها متشددون في ساحة سيدي بلعباس قبل سنوات، وأُعيد نشرها في بيروت والقاهرة (دار الحداثة، بيروت ــــ مدبولي، القاهرة) ــــ مبرراً اشتغالاته على الجسد المقموع: «الجسد عند العرب، يُربى كما تربى الأسماك، نعتني به ليُغتال في آخر لحظة. أنظر إلى ثقافة الحمّامات، أو ثقافة العطور، إنها ثقافة محرّمة لا تحترم الجسد إنسانياً، بل تقوم بأكبر عملية انتهاك له بمصادرة حريته، وتالياً بمصادرة اللغة وتقزيمها وتقليم أظافرها لإنتاج نص مبتور ومعوق». ويتساءل منفعلاً «أين نحن اليوم من نصوص

كاتب ياسين تعامل مع الفرنسية كـ«غنيمة حرب». أما أمين الزاوي فيعتبرها «مستعمرة محررة»
الفقهاء التي تتجاوز بحداثتها وجرأتها معظم نصوص الحداثة؟ دوري كروائي أن أعيد الألق إلى اللغة الموءودة. وما يقال عن كتاباتي بأنها استفزازية، إنما هو محاولة لإعاقة اللغة البديلة وعدم تمكينها من استعادة موقعها المفقود». كأن روايات الزاوي، في اشتباكها مع المحرّم والمستور، تمثّل انتهاكاً لغوياً مضاداً للمدوّنة العربية المستقرة. هذا ما نجده مثلاً في «أهل العطر» (2003)، عبر تمثّلها الرائحة وفتح الأبواب المغلقة لهواء متجدد. ما يمنح اللغة نفحة شعرية متوثبة، مؤسسة على مخزون تراثي ومعرفي في حراثة تراب المعجم العربي بمحكيات آسرة، تتوغل عميقاً في الممنوع ونبش الآبار المهجورة لاستعادة صفاء الماء.
سؤال القمع نجده أيضاً في كتاب «ثقافة الدم»، وهو مدوّنة في تاريخ القمع الثقافي العربي والإسلامي، يستعيد وقائع وأسماء مبدعين قتلوا أو نُكِّل بهم وحرقت كتبهم واعتدي عليهم، أمثال حسين مروة، ومهدي عامل، وفرج فودة، والطاهر جاعوط... أو نجيب محفوظ، أو أيضاً عبد اللطيف اللعبي الذي ذاق طعم السجن طويلاً، تتوالى الصور مأساوية لترسم ما آل إليه المبدع العربي على يد فقهاء الظلام وأنظمة القهر. يقول أمين الزاوي مؤكداً ««ثقافة الدم» هو كتاب مقاومة أولاً، وصورة حية لمصائر النخب العربية المقاومة في سلسلة تمتد من ابن رشد والحلاج إلى آخر مخطوط يقبع في أدراج الرقابة لكاتب مجهول».