مهرجان القصبة السينمائي الدولي» يستدرجنا إلى فخ التطبيع الثقافي مع إسرائيل؟ وجهة نظر نقديّة، ونداء إلى يسري نصر الله: لا تأتِ الآن إلى رام الله
زكريا محمد *
يوم الخميس، حضرنا ختام «مهرجان القصبة السينمائي الدولي»، فإذا بنا نفاجأ بأنّه تحول إلى نافذة لإمرار قضايا سياسية مختلف عليها، ولا تمثل الإجماع الثقافي الفلسطيني. قُرِئت رسالة باسم المثقفين الفلسطينيين جميعاً، تطالب بكسر الحصار عن الشعب الفلسطيني. والغريب أن المقصود بـ«الحصار الإسرائيلي» ليس سياسة الحكومات الإسرائيليّة المتتالية بحق الشعب الفلسطيني وممارساتها الهمجيّة القائمة على القتل والهدم والتجويع وطمس الهويّة واغتصاب الحقوق، بل إن العبارة وردت بمنتهى البساطة للإشارة إلى موقف المثقفين العرب الذين يرفضون زيارة فلسطين (وخصوصاً الضفة) في ظل الاحتلال. هذا هو إذاً الحصار الذي ينبغي كسره؟ هكذا، بسحر ساحر، تحوّل هؤلاء المثقفون من متضامنين مع الشعب الفلسطيني دفاعاً عن حقوقه، إلى متواطئين على حريّته، ومحاصرين للشعب الفلسطيني! هل يجوز أن نسكت عن هذا الخلط الغريب؟
لنوضح أوّلاً أن إسرائيل لا تمانع في وصول أي مثقف عربي إلى رام الله. بل هي ترحّب بذلك، ما دام الزائر يأتي بموافقتها، وبأمرها، وما دام سيعبر الجسر الذي يسيطر عليه جيشها، وما دام سيذلّ ويهان على الحواجز الإسرائيلية. من هذه الزاوية ليس هناك حصار إسرائيلي كي تكسره الممثلة التونسية هند صبري (راجع «الأخبار» عدد ٢٣ تشرين الأول/ أكتوبر). ولو أن المخرج يسري نصر الله مثلاً جاء إلى رام الله، لما «تحدّى» أي «حصار». كفى تزويراً... تعهيراً للكلمات!
إن الحصار المقصود ببيان «مهرجان القصبة» هو موقف قطاع واسع من المثقفين العرب الذين يرفضون المجيء إلى الضفة بموافقة الاحتلال. هؤلاء هم مَن يحاصرون الثقافة الفلسطينية. وحصارهم هو الحصار الظالم الذي يشار إليه! المطلوب إذاً ليس مواجهة حصار إسرائيل، بل مواجهة «حصار» العرب. أما «مهرجان القصبة»، فيريد المشاركة في كسر الحصار العربي المفترض. وهذا حقه، لكن شرط ألا يتحدث باسم المثقفين الفلسطينيين... فالذين بادروا إلى إصدار هذا البيان الخطير، لا يحقّ لهم أن يدّعوا تمثيل الحياة الثقافية الفلسطينية.
بناءً على هذا البيان، نصبح ملزمين بطرح سؤال على «القصبة»: هل أنتم مهرجان سينمائي، أم هيئة سياسية للدفاع عن موقف سياسي خلافي محدد؟ إذا كنتم تريدون أن تكونوا هيئة سياسية، فلكم الحق. لكن لنا الحق حينها أن نعاملكم كجهة سياسية لا كمهرجان. وفي هذه الحال، المهرجان سيخسر، ونحن لا نريد له ذلك.
إسرائيل ترحّب بهند صبري، فهي لا تكسر الحصار بل تمدّ جسور التطبيع
والحق أنّ هناك ما يشير إلى أن بيان «مهرجان القصبة» لم يأت مصادفة، بل في سياق فتح معركة خاصة لكسر موقف المثقفين العرب الذين يرفضون زيارتنا بإذن من الاحتلال. وخلف ستار هذه المعركة، لا يمكننا سوى أن نرى نيّة لإمرار «تطبيع» مع إسرائيل. ولعل وجود فيلم نادية كامل «سلطة بلدي» في المهرجان دليل على ذلك. رغم احترامنا للمخرجة، وتعاطفنا مع والدتها في مأساتها الذاتية، فالفيلم يستخدم مأساة خاصة لإمرار أفكار سياسية خطيرة بشأن مسألة عامة، هي الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي. حين يتحدث عن المهاجرين اليهود المصريين إلى إسرائيل ومآسيهم، يفشل في أن يذكر واقعة أنهم ناموا في بيوتنا المسلوبة وعلى فراشنا الذي وجدوده ساخناً من دفء أجسادنا.
وإذا جمعنا البيان إلى الإشارات الأخرى، يصبح بإمكان المرء أن يشك في أننا أمام محاولات لإمرار قضايا سياسية خطيرة، أو مختلف عليها في أقلّ تقدير، تحت غطاء السينما. ولأن الأمر كذلك، كان علينا أن نواجه الخلط الذي حصل في مسألة الحصار. البيان يتحدث عن الحصار الإسرائيلي، لكنه يصوّب نحو موقف قطاع واسع من المثقفين العرب بهدف كسره.
لذا، نقول إنّ هند صبري لا تكسر الحصار الإسرائيلي حين تأتي إلى رام الله. هي لا تفعل شيئاً يعاكس مصالح الاحتلال حين تأتي إلى رام الله. على العكس، هي مرحّب بها من الإسرائيليين. وإذا كانت صبري تريد كسر الحصار الإسرائيلي فعلاً، فعليها الذهاب إلى غزة. هناك يكمن الحصار، الحصار المميت. كذلك، لن يكسر يسري نصر الله الحصار لو أتى إلى رام الله. هو سيأتي بإذن إسرائيل التي لن تمنحه إذنها كي يأتي ليكسر حصارها. سيأتي فقط كي يكسر موقف زملائه المصريين ممن يرفضون زيارة رام الله تحت الاحتلال وبإرادته.
نحن مشتاقون إلى هند صبري ويسري نصر الله ولكل إخوتنا من المثقفين العرب. نودّ أن يكونوا بيننا، كي نعدّ لهم «المسخّن»، ونعزمهم على طبق «كنافة» نابلسية. لكننا نتحمّل عدم مجيئهم كي لا يصبحوا مُذَلّين مهانين مثلنا. نحن هنا نرغم على عبور الحواجز الإسرائيلية وتقبّل الإهانات كل يوم. مرغمون على أن ندفع وثيقة سفرنا إلى جندي إسرائيلي على الجسر كي يختمها ويسمح لنا بمغادرة بلدنا مسافرين. هذا قدرنا.
لكن ما الذي يرغم يسري نصر الله على أن يُذلَّ على الجسر ويلوّث جواز سفره بالختم الإسرائيلي؟ جواز سفره رمز لمصر، لماذا يهين هذا الجواز؟ أمن أجل أن يحضنني في رام الله، ويأكل صحن كنافة معي؟ لا، أنا لا أبيع كرامة مصر والجواز المصري بقعدة على صحن كنافة.
نحن لا نريد إخوتنا المثقفين العرب هنا، لأننا لا نريد لهم أن يكونوا مُذَلين مثلنا. نريد لهم أن يظلوا أعزة. أما إذا كانوا يريدون تذوّق طعم المذلة مثلنا، فلا مشكلة لدينا. يستطيعون أن يأتوا إلى رام الله، لكن شرط ألا يتحدثوا عن كسر الحصار. لا علاقة لمجيئهم بكسر الحصار. مَن يرد أن يكسر الحصار فعلاً، فليذهب إلى غزة، وإلى الجانب الأردني من الجسر... ويقول: سأعبر إلى فلسطين غصباً عن إسرائيل، ومن دون إذنها.
ثمة عبارة بريئة تكاد تتحول إلى طوطم عند «كاسري الحصار الجدد!» وهي: «زيارة السجين ليست تطبيعاً مع السجّان». بلى أيّها السادة، زيارة السجين هنا في فلسطين هي تطبيع مع السجان. والدليل أن السجّان يشجّع عليها. يضع العقبات أمام أهل المعتقلين الذين يرغبون في زيارة أبنائهم في سجن النقب مثلاً، لكنه لا يضع العقبات أمام مجيء المثقفين العرب إلى رام الله.
هذه ليست زيارة لسجين، إنها إقرار بأن السجّان على حقّ. لاحظوا أن وفود التطبيع الرسمية العربية تستشهد كثيراً بهذه المقولة. يأتون للتطبيع مع إسرائيل تحت حجة زيارة السجناء. يستخدمون مقولة طيبة لتغطية سياساتهم غير الطيبة.
وحين يأتي يسري نصر الله، الذي يريد أن يزور السجين فعلاً، فهو من حيث لا يدري يثبّت موقف هؤلاء ويدعمه. عزيزنا يسري، سمعنا صوتك أمس عبر الهاتف، في مهرجان القصبة، وأحسسنا برعشة الحب فيه. رعشة الحب لفلسطين وأهلها. لكننا ربما نعرف أكثر منك ما يجري هنا. لا نحب أن تتعرض لابتزاز من يدّعي أنه سجين، فتُستدرج إلى الفخّ...لا نريدك أن تكون شاهد زور العام المقبل، على ذلّنا ومهانتنا وموتنا... فيما أنت تظنّ أنّك تتضامن معنا ضدّ هذا الموت وتلك المذلّة. إذا جئت فستزور السجين حتماً، لكن بثمن غال: ستزيد عدد الأذلاء واحداً في هذه الأمّة البائسة.
نحن نحتاج إليك خارج السجن، كي ترسم لنا آفاق الحريّة الممكنة. أما إذا كنت راغباً في أن تصبح ذليلاً مهاناً مثلنا، فأهلاً بك في رام الله. وسوف نشرب نخب مذلّتك ومذلّتنا. سوف نشربها ونبكي.
* شاعر فلسطيني


شهرزاد و«المقاومة»؟