من فيلليني إلى كيروساوا، مخرجون مرموقون كتبوا سيناريوهات بقيت في الأدراج. «أفلام لن نشاهدها» (وزارة الثقافة السورية ــ دمشق) يذهب باحثاً عن هذه المشاريع المجهضة
خليل صويلح
ليست الرقابة وحدها من يَجهض المشاريع السينمائية، هناك أسباب أخرى تتعلق بالظروف الإنتاجية، وطبيعة السيناريو، ومزاج شركات الإنتاج. على الأرجح، فإنّ معظم كتّاب السيناريو الشباب، يواجهون مشكلات حقيقية في تسويق ما يكتبونه. لكن ماذا بخصوص الكبار؟ قد لا نصدّق اليوم أنّ مخرجين مرموقين كتبوا سيناريوهات كان مصيرها الأدراج، أمثال فيديريكو فيلليني، وآلان رينيه، وآكيرا كيروساوا وآخرين.
المخرج وكاتب السيناريو الإسباني كالوس كناب واجه مأزقاً في تنفيذ أحد سيناريوهات أفلامه كما يشتهي، فلمعت في رأسه فكرة إنجاز كتاب يرصد مصير السيناريوهات السينمائية المجهضة، فكان كتابه «أفلام لن نشاهدها».
في الكتاب الذي عرّبه مروان حداد (وزارة الثقافة السورية ــــ دمشق)، نتعرف عن كثب إلى مكابدات سينمائيين تعرّضت نصوصهم للمنع والشطب والإقصاء والتأجيل. هكذا، انتظر جان رينوار ثلاث سنوات للعثور على منتج يقبل بتمويل فيلمه «الوهم الكبير». أما كيروساوا، فقد أمضى خمس سنوات من دون أن يحقق أي عمل. وعندما تمكن من تمويل فيلمه «دوديسكادين» (1971)، حاول الانتحار بسبب فشله التجاري. آبل غانس صاحب فيلم «نابليون» تجاهلته شركات الإنتاج طويلاً، في الوقت الذي كان لديه نحو مئتي فكرة لم تتحقق. مات روسيلليني من دون أن يحقق حلمه بإنجاز فيلم «كاليغولا» وكذلك فيسكونتي الذي لم يتمكن من تحقيق رائعة مارسيل بروست «البحث عن الزمن المفقود». حتى جان تروفو الذي يعتز بأن أياً من سيناريوهات أفلامه لم ُيرفض، كان عليه الانتظار خمس سنوات كي يتمكّن من تصوير «فهرنهايت451». ويشير كالوس كناب إلى أن معظم الأفلام التي نشاهدها، تخضع للشرط التجاري في المقام الأول، فشركات الإنتاج الكبرى تفكر في الربح أولاً. أما السيناريوهات الفنية، فإنّ مصيرها إدراج مؤلفيها، وفي أحسن الأحوال، يصار إلى بتر أجزاء منها أو إحداث تغييرات في صيغتها الأصلية. ووفقاً لما يقول تروفو، فإنّ «سيناريو الفيلم ليس هو الفيلم».
لعلّ فيلليني من أكثر المخرجين الذين واجهت سيناريوهات أفلامهم صعوبات في تمويلها، فقد كابد سنوات كي يحقق «الحياة الحلوة» كما أنّه لم يتمكّن من إنهاء فيلمه «كازانوفا» بعدما أوقف المنتج تمويله. هناك سيناريو مجهول ظل في أدراج المخرج الإيطالي المعروف يحمل عنوان «نساء ماغليانو الحرائر». في هذا السيناريو الذي تجري أحداثه في مشفى للمجانين، أهدر فيلليني أشهراً في المستشفى للتعرف على حالات مرضية حقيقية، لكنه في الواقع لم يجد من يتحمس للفكرة، فكان أن صوّر «ليالي كابيريا» وبقي حلمه في تحقيق هذا السيناريو معلّقاً في الهواء. حينها، نصحه أحدهم بكتابة فيلم عن الناس العاديين، لكن فيلليني ظل مهووساً بالقصص الاستثنائية.

روسيلليني مات وفي نفسه شيء من «كاليغولا»
المخرج الإسباني لويس غارسيا بيرلانغا هو صاحب أكبر قائمة للسيناريوهات الموءودة. إذ وصلت إلى 36 مشروعاً، فصاحب «أهلاً بالسيد مارشال»، وجد نفسه محاصراً في ظل الشروط التي كانت سائدة خلال حكم فرانكو. يقول «لم يتمكن الضغط المستمر والاقتطاعات الجائرة من أفلامي، من دفعي إلى أي شكل من أشكال الرقابة الذاتية، واستمررت في الكتابة بكل حرية». لكن سيناريو «العيد الوطني» لم ينجز على الإطلاق، فقد كان يتناول الحرب الأهلية الإسبانية، وهو ما دعا فرانكو نفسه إلى منع تصوير الفيلم. آكيرا كيروساوا لديه حكاية مؤجلة أيضاً، فقد كتب سيناريوهات عدة، خلال عمله مساعداً للإخراج، لم يتمكّن من تحقيقها، من بينها سيناريو بعنوان «ثلج» عن حياة مزارعي الأرز، لكنه فضّل لاحقاً أن يكون فيلمه الأول «سانشيرو سوغاتا» (1943)، وإذا به يعلن عن مولد مخرج عبقري يتجاوز حدود بلاده. صحيح أن السيناريو، هو مجرد دليل عمل يخضع لارتجالات المخرج أثناء التصوير، لكنه في كل الأحوال يبقى نصاً أدبياً قابلاً للقراءة. المفارقة التي يحيلنا إليها كتاب «أفلام لن نشاهدها»، تتعلق بتغيّر مزاج أصحابها، فبعض هذه السيناريوهات التي كانت ممنوعة في وقتها، لم تشجع مخرجيها على إنجازها بعد انتفاء أسباب منعها، وخصوصاً إثر اندحار الحكومات المستبدة. لكن ماذا بخصوص السينمائيين العرب؟ لا شك في أن قائمة طويلة تقف في طابور أمام أبواب الرقابة، وهذا الواقع وحده يحتاج إلى كتاب مماثل، وربما إلى مجلد ضخم بعنوان «موسوعة السيناريوهات العربية الممنوعة».