في نظره «أوليس» ليس إلا ابن الأزمة الرأسمالية... الناقد الماركسي الذي ترجم كتابه المرجعي أخيراً في القاهرة، قلب معادلات البلاغة الروائية وراح يرصد علامات الزمن على النصّ. أهمية أطروحاته لا تكمن في تفكيك جغرافية الأدب فحسب، بل في إطاحة الثوابت النقديّة التي تؤطره
خليل صويلح
يدخل الناقد الإيطالي فرانكو موريتي خريطة الأدب العالمي من أكثر الدروب وعورة وبكارة. ينسف كل النظريات الجاهزة في دراسة الأدب، أو لنقل إنّه يقوّض المنجز النقدي سوسيولوجياً، معوّلاً على الحدس في المقام الأول. كان كتابه الأول «علامات أُخذت على أنها أعاجيب» الذي دخل أخيراً إلى المكتبة العربيّة (المركز القومي المصري للترجمة ــــ ترجمة ثائر ديب)، أشبه بالصدمة، نظراً إلى أطروحاته المغايرة. نصوص من كلاسيكيات الأدب العالمي، أُشبعت نقداً وتحليلاً، يضعها موريتي على مائدة تشريح جديدة، فإذا بنا أمام وجهة نظر تنقلب على الأصول أولاً، وتدير ظهرها لكلّ التيارات النقدية المتعاقبة.
صحيح أنّه يسير على هدى أفكار جورج لوكاتش ولوسيان غولدمان ووالتر بنيامين، وقبل هؤلاء كانط وهيغل وماركس، إلا أنه يلجأ إلى خلطة مبتكرة يمكن تسميتها «ضد المنهج». هكذا يبث الحياة في نصوص القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، لإثبات زيف ما كنّا نعتقد أنّه مسلمات نقدية. لا يطمح هذا الناقد اليساري المشاغب إلى تأليف نظرية بديلة، بل يسعى إلى إطاحة الثوابت حتى في كتاباته نفسها.
يستعير موريتي عبارة هوبز «الشكل قوة»، بوصفها مفتاحاً لفحص النصوص الأدبية من الداخل. عبر طرائق السرد، وأجناس الكتابة، ويستكشف القارة المجهولة في الأدب الجماهيري الذي طالما اعتبره النقّاد خالياً من المعنى. هكذا يتوقف ملياً عند القصص البوليسية التي تنطوي، بحسب رأيه، على كثير من المفاجآت، بسبب الضوء الذي تلقيه على أعمال من نوع آخر. «بلاغة القصة البوليسية تمكّننا من أن نفهم بصورة أفضل تلك الإشكالية الشكلية والثقافية التي يعتمد عليها جوزيف كونراد من حلول سردية مضادة لحلول القصة البوليسية».
الابتكار والتجديد هما البلاغة التي ينبغي اقتفاء أثرها في تقليب تربة النصوص. الأدب الفعلي مناهض للأعراف بطبيعته، لذلك هو قابل للتأويل باستمرار، لأن تاريخ الأدب، وفقاً لما يقول صاحب «أطلس الرواية الأوروبية» هو تاريخ الصراعات في علم الأشكال الجمالية، وزعزعة الثوابت. هكذا، فإن إعادة الألفة إلى نص ما تتطلب منا ممارسة العنف إزاءه وتشويه قوامه المادي، وإعادة بنائه لإنقاذه من السكونية. من هذا المنطلق، يمكننا قراءة «شارلوك هولمز»، أو قصص الأشباح، بالجدية نفسها التي ننظر بها إلى روايات بلزاك. فهي ببساطة جزء من التاريخ الأدبي، وضرورة ملحة في بناء النظام الأدبي الماضي بمزيد من الدقة النظرية والتاريخية، بعيداً عن اليقينيات.
يعترف فرانكو موريتي خلال إطلالاته على بعض النصوص الكلاسيكية، بأنّه يسعى إلى يوتوبيا شخصية في مشروع نقدي هدّام وتقويضي لما بات مكرّساً نقدياً، وإعادة الاعتبار إلى شخصيّات هامشية مثل «فرانكنشتاين» و«دراكولا» من منطلق سوسيولوجي لقراءة استراتيجية الرعب والخوف والرغبة.
كذلك يتوقف مليّاً أمام مدينة باريس في القرن التاسع عشر، عبر نصوص بلزاك التي تمثّل سرداً موازياً لتحوّلات المدينة وأمكنتها، ما يضفي على الحبكة بعداً آخر مبتكراً. فلكل مدينة بيئتها السردية الصادمة، وهذا ما يفعله بودلير من مقلب آخر «بسلسلة من الصدمات، في أشكال بلاغية جريئة».
«أوليس» جيمس جويس، تتحول تحت مجهر فرانكو موريتي إلى نص آخر، إذ يربطها بالأزمة الرأسمالية الليبرالية، وأفول قيم أيديولوجية كانت مهيمنة بوحشية على الحياة في دبلن. وما ركود «أوليس»، وشلل شخصياتها، إلا تعبير عن هذه الأزمة. يرى هذا الناقد أن عبقرية جيمس جويس تتجلى في إدراكه نهاية القرن الليبرالي بذكاء استثنائي، ما انفك يزاوج بين البنية الاجتماعية المتهالكة، والبنية الأدبية النوعية في رسم خطوط هذه الرواية التي أحدثت فارقاً عميقاً.
ما أحدثته «أوليس» من هزّة في تاريخ الرواية العالمية، تكرّر مع «الأرض اليباب» (1922)، القصيدة الفارقة التي خلّدت ت. س. إليوت، وواكبت طفرة أدبية شاملة، اجتاحت أوروبا ما بعد الحرب العالمية الأولى، لم تتكرر لاحقاً بمثل هذه القوة. القراءة هنا تتخذ خطاً مغايراً في التأويل النقدي. هذه القصيدة، كما يرى موريتي، لا يمكن مقاربتها إلا من خارج مجالها الخاص، لسبر أغوار المعنى، نظراً إلى حمولتها الهائلة من المراجع والإحالات الأدبية والأسطورية. لكن نظرة مفارقة لـ«الأرض اليباب» تكشف أنّ فردوس إليوت ما هو إلا فردوس اصطناعي.
إن أهمية أطروحات فرانكو موريتي، لا تكمن في تفكيك جغرافية الأدب، بل في المحو الدائم لليقينيات النقدية. نقرأه في اشتباكه مع مرجعيات ثقافية متشعبة، تجد في النقد الثقافي جسراً لترميم النصوص من خارجها والتشكيك في صلاحيتها ومقاومتها للزمن بالطريقة عينها.
وإذا كان كتابه «علامات أُخذت على أنّها أعاجيب»، مقاربة أولى في سوسيولوجيا الأشكال الأدبية، فمساهماته اللاحقة، غدت أكثر رسوخاً في الابتكار النقدي بقصد شدّ حواف البحث التاريخي. «ذلك أن تاريخاً يعاد رسمه تبعاً لمبادئ شكلية صارمة، لا بد أن يكون أيضاً تاريخاً أشدّ صلابة». ولعله في كتابه الأخير «مخططات، خرائط، أشجار» (2005)، قد توصّل إلى مبتغاه النقدي في قراءة الأدب، إذ يدعو إلى «إدراك النماذج لا إلى فك مغاليق العلامات».