لمناسبة مرور عشر سنوات على رحيل الفنان السوري الرائد، أصدرت «غاليري أتاسي» كتاباً هو خلاصة ندوة جمعته بمواطنه «مهيار» في عام 1998، وتمحورت حول سؤال: «هل اللوحة عمل أدبي؟»
خليل صويلح
في أيار (مايو) 1998، أقامت «غاليري أتاسي» في دمشق ندوة «هل اللوحة عمل أدبي؟». كان ضيفا الندوة، فاتح المدرس وأدونيس، في حوار عن اللون والكلمة، والذات والآخر، الطفولة والنسيان، بقصد إضاءة معنى التلاقي والاختلاف بين الشعر والتشكيل. لن يُشبع الحوار في تلك الأمسية، ما جعل صاحبة الغاليري منى أتاسي تقترح على ضيفيها استكمال السجال في منزلها. هكذا استمرت اللقاءات أربع ليالٍ متواصلة، وإذا بالأسئلة تتفرع إلى مناطق متشعّبة في حياة التشكيلي الرائد. هذه الوثيقة النادرة أصدرتها أتاسي في «فاتح وأدونيس: حوار» (غاليري أتاسي) لمناسبة عشر سنوات على رحيل الفنان.
الارتجال في الأسئلة والأجوبة، أضاع بعض المحطات الأساسية في حياة هذا التشكيلي القلق. فقد كان أدونيس يحلّق بأسئلة ماورائية، لم تجد صداها تماماً لدى المدرس، وهذا ما يشير إليه أدونيس في المقدمة «كان فاتح مأخوذاً بألق الحياة وسطوعها، فيما كنت أميل إلى الغوص في معنى الحياة...». المسافة بين العقل والحدس ظلت تفصل بين الصديقين في حوارهما. إصرار أدونيس على أهمية العقل في الكتابة، وإصرار المدرّس على الحدس باعتباره البوصلة الأولى للإبداع، قاد السجال إلى دائرة مغلقة ومعتمة. يقول فاتح: «لم أحترم العقل في حياتي. أعتبره مجمّع قاذورات تحكمه أشياء في منتهى السوء. أنا أعتمد على الحدس». هكذا، سيبقى المدرّس متمترساً خلف ألوانه وريشته غير عابئ بالأفكار الكبرى التي ما انفكّ أدونيس يرمي بها فوق الطاولة للوصول إلى نقاط تلاقٍ بينهما. سيهزّ فاتح رأسه موافقاً مراتٍ قليلة، ثم ينسحب إلى خندقه رافضاً تفسيرات ما يرسم، مكتفياً بأهمية شحن العاطفة في التصوير، وإبعاد سطوة المتلقي أثناء العمل على اللوحة «حتى لو انتهى بها الأمر إلى المرحاض». إصرار أدونيس على أفكارٍ بعينها عن صلة القرابة بين الشعر والفكر من جهة، والتشكيل من جهة ثانية، سيرفضها المدرّس، مشيراً إلى أنّه يعمل في حقل مختلف قوامه الخط واللون فقط.
حين يجد المدرّس نفسه غارقاً في متاهات أدونيسية، أو فخاخ تقود اللوحة إلى مناطق أبعد مما تعمل عليه ريشة الفنان، سيكرر: «لم أفهم سؤالك جيداً، ماذا تقصد؟». كذلك فإنّه لا يتوانى عن الرد على بعض الأسئلة بعبارات من نوع «هذا هراء» أو «سنختلف على طول الخط». هكذا سيستمر أدونيس في إثارة أسئلة مكررة عن الهوية والشكل الفني والذاكرة والمعرفة والجمال، لن نجد إجابات شافية عنها لدى المدرّس، فيبتعد الاثنان عمّا هو جوهري في عمل المدرس. ولن تهدأ العاصفة إلا حين يقترب المحاور من حميميّة الأشياء البسيطة التي تتعلق بالطفولة ومغامرة اللون، والمرجعيات الأساسية في تجربة فنان مؤسس لحداثة تشكيلية، تستمد جذورها من بيئتها المحليّة. لعل ما هو غائب في الحوار، هو روح المواجهة والاكتفاء بتمجيد التجربة، من دون الاشتباك معها من الداخل، ما جعل الحوار في بعض جوانبه أقرب إلى الدرس الفلسفي المضجر الذي يخلو من الاعترافات الشخصية، ونبش ما هو سرّي في حياة المدرّس. سيتورط أدونيس ـــــ أقلّه مرةً ـــــ في اتهام أعمال الفنان بالتشابه، لكنه سرعان ما يوضح أنّ هذه التهمة تتعلق بأصحاب الذائقة المستقرة، فلوحة المدرّس ـــــ يضيف أدونيس ـــــ متجددة دوماً. وهي حسب قوله تشبه الجمل الموسيقية في أغاني أم كلثوم التي توهم بالتكرار، وهي في حقيقتها تنويعات لانهائية على الجملة الموسيقية الواحدة. وحين يسأله: «الآن هل قبلت تفسيري؟» يجيب المدرّس ببساطة: «لم أقبله، كما لا توجد قرابة بيني وبين أم كلثوم». لا يعترف المدرس بالشيخوخة بل بالموت، في عالم قذر يجعل من الإنسان، في النهاية، مجرد حشرة، ما دام ليس للجمال حصانة.
في ملحق الكتاب، نقرأ خمس رسائل كتبها المدرس إلى أدونيس من أماكن وأزمنة مختلفة، تُعرّفنا بجوانب من القلق الذي رافق التشكيلي «أعيش على برزخين، القدم اليمنى على برزخ، والثانية على برزخٍ ثانٍ، أو مرفوعة ككلب يبول على حجر». ويقول في مقطعٍ آخر: «اللون الأسود ليس ملكاً لأحد، لأنه سيغلّف جميع الفنانين بوشاحه. أما الأصفر فهو الطفلة اليتيمة التي عثرت عليها الشمس بين حقول الزعفران، ولذا أصبح شعاراً لسراويل الفلاحين في بادية حلب، وأردية لرهبان فيتنام وكمبوديا والتيبت... الأخضر قاتل جميع فناني القرن بمن فيهم ماتيس».