لعلّه أحد أكبر كتّاب القرن العشرين، وأكثرهم إشكاليّة وإثارة للجدل. اللقيط المتسكّع، والسارق الذي كتب بلغة نادرة، والمثلي الفضائحي، والمناضل الراديكالي صديق الـ«بلاك بانترز» والفدائيين، يعود إلى المكتبة العربيّة من خلال نص غير معروف، عرّبته رجاء الشبلي، بعنوان «أنشودة الحب»
خليل صويلح
أعمال كثيرة ما زالت مجهولة، أنجزها الكاتب الفرنسي المارق جان جينيه ( 1910 ــــ 1986) وظلت طي النسيان. «أنشودة الحب» الذي عرّبته رجاء الشبلي (دار نينوى ـــ دمشق)، فرصة لاكتشاف وثائق نادرة تضيء جوانب سرّية في حياة صاحب «نوتردام الأزهار» وتكشف عن هويّاته المتعددة. تسعة كتّاب، تناولوا سيرة جينيه من أكثر المواقع إثارة. الرجل الذي كان دريئة لكل الشبهات، والأوصاف السيئة، يعود ببرواز جديد بما يشبه الانقلاب على ما لحق به من عار ورذيلة. يعترف ألبير ديشي، مسؤول أرشيف جينيه في «معهد البحث والمطبوعات المعاصرة» في باريس «اخترتُ أعمال جينيه لأنّه ببساطة كان يخيفني». وتكشف مارين جافريزيك عن تحفة سينمائية مجهولة تعود إلى 1950، أنجزها جينيه بعنوان «أنشودة الحب»، ظلت سنوات تطاردها الرقابة، قبل أن يفرج عنها في منتصف الثمانينيات، على نطاق ضيّق. الفيلم الذي وُصف بأنّه «إباحي ورخيص» يرصد حياة سجناء معزولين في زنازينهم يصارعون حرمانهم الجنسي والعاطفي. سجناء سابقون، أدّوا بالأدوار، بصورة سريّة. إذ كان جينيه يعلم خطورة الفكرة، وحين هُرِّب الفيلم في عروض خاصة بوصفه شريطاً طليعياً وتجريبياً، سرعان ما تعرّض للمنع. تقرير المحكمة وصفه بأنّه «تجاوز حدود الحشمة في وصف فاضح لممارسات غير رشيدة، وقد ظهرت الفصول الجنسية المختلفة بطريقة واضحة». جان كوكتو كان ضد الفيلم أيضاً «هذا عبث كلّي»، فيما وصفه طوني رين بأنّه «أشهر فيلم قصير في التاريخ الأوروبي يتحدث عن المثليّة الجنسيّة».
25 دقيقة صامتة هزّت الأوساط الثقافية في فرنسا، قبل نصف قرن ونيّف. فالفيلم، عدا فضائحيته، كان بمثابة راية في «تاريخ الإبداع اللواطي» و«استعارة شاعرية وبصرية فائقة للحرمان الجنسي» وفقاً لما يقوله آموس فوج.
هذه القصّة المشوّشة التي واكبت الفيلم انتهت إلى الاعتراف بأهميّة صنيع جينيه وقدرته على قلب الطاولة في وجه الجميع، وفي أيّ نص كتبه خلال حياته القاسية والمعذَّبة والمنهوبة. ذلك أنّ الشبقية التي حدّدت مسار شريطه الصامت، وبعضاً من نصوصه الأخرى، كانت جزءاً من فلسفته الحياتيّة. السجن في نهاية المطاف، هو الحيّز الحقيقي الذي تفتّحت فيه مواهبه في الكتابة والعصيان والتمرّد.
في مقابلتين مصوّرتين، أُجريتا معه في 1981، و1982، تطرّق جينيه إلى مناطق شائكة في حياته، متذكّراً أصدقاءه القدامى أمثال جياكوميتي، أو رامبو صديقه الافتراضي، ومسرحياته التي قدّمها المخرج أنطوان بورسيّيه على الخشبة، مثل «الشرفة» و«سجن الأشغال الشاقة». كما اعترف بأنّه يمثّل الأوغاد جميعاً.
صورة جينيه على فظاظتها وخلاعيتها وزقاقيتها، تتّخذ هنا منحىً تمجيدياً لتجاوزه الخط الأحمر في كتاباته وسلوكياته، ومواقفه الراديكالية تجاه قضايا عالمية، وخصوصاً الفلسطينية. وترى مارين جافريزيك التي أنجزت أطروحة عن «أنشودة الحب» في «جامعة باريس 3»، أنّ السينما كانت بوصلة جينيه إلى الكتابة والمسرح. وهذا العشق للسينما تسلّل إلى مفرداته في الكتابة. ألم يكن نص «رقابة مشددة» سيناريو سينمائياً قبل أن يتحوّل إلى نصٍّ مسرحي؟ هكذا، سنكتشف سيناريوهات أخرى مجهولة له، مثل «تمرّد الملائكة السوداء» (1950)، و«الأحلام الممنوعة» (1951)، و«السيّدة» (1966). أما آخر سيناريو كتبه، فهو «لغة السور» (1981). وهو فيلم معقّد يرصد وضع الإصلاحيات، ابتداءً من الثورة الفرنسية حتى القرن العشرين. السيناريو تعثّر طويلاً، فما كان من جينيه الذي كان يقيم آنذاك في المغرب، سوى المغادرة إلى بيروت برفقة صديقته المناضلة الفلسطينية ليلى شهيد، ليكونا شاهدين على مجازر صبرا وشاتيلا 1982. كانت حصيلة هذه الرحلة نصه الجريء والنزيه والمغاير «أربع ساعات في شاتيلا».
سيرة جينيه، في نهاية المطاف، هي سيرة النفي والترحال والرفض. وجد نفسه، بعد سنة من ولادته لأم عازبة وأب مجهول، مرمياً أمام مبنى الإعانة العامة في باريس، لتتبنّاه عائلة قروية. بدأ حياته لصاً، ثم غادر إلى باريس بعد وفاة والدته بالتبني، وعمل في مطبعة، قبل أن يعاد إلى الإصلاحية، ثم السجن. وبعد مغادرته مستعمرة ميتراي الإصلاحية، سيق إلى الجندية في الجيش الاستعماري، وأمضى جزءاً من خدمته في سوريا، ثم المغرب. وعاد إلى باريس عام 1933 قبل أن يغادرها إلى إسبانيا. وإذا به يلتحق بكتيبة القنّاصة الجزائريين، ثم بكتيبة المشاة في المغرب. في هذه الأثناء، فرّ من الخدمة العسكرية، وجال أوروبا بهويّة مزوّرة. في تشيكوسلوفاكيا، كان لاجئاً سياسياً. وحين عاد إلى فرنسا مرة أخرى عام 1937، كانت رزمة اتهامات تنتظره «سرقة، وانتحال شخصية، والفرار من الخدمة العسكرية...»، فسُجن خمسة أشهر. وبين 1937ـ 1944، دخل السجن 13 مرة بتهمة السرقة والتشرّد. أما سيرته اللاحقة، فظلّت تطارده حتى آخر يومٍ في حياته بوصفها فضيحة علنية. «قد تكون الكتابة هي ما يبقى لك عندما تُطرد من مجال الكلام القاطع».