الجزائر ــ فاطمة بارودياحتفل مسرح «الموجة» أخيراً بثلاثين سنة على تأسيسه. وهي ربما المرة الأخيرة التي سيلمّ فيه هذا الفضاء الحميم شمل الأسرة المسرحية في بلد ولد كاكي وعبد القادر علّولة. كأن هذه الأخيرة لا يكفيها ما تعانيه من شتات لتشهد على تهديم أبرز معالم الذاكرة المسرحية الجزائريّة.
لم يتوقع مسرح «الموجة» الذي كان ينتظر من السلطات دعماً مالياً لإعادة ترميمه في ميلاده الثلاثين، أن يتلقى الهدية المسمومة: مشروع إعماري يمر على شاطئ «صلامندر» في مدينة مستغانم الساحلية، سيبتلع المسرح ويُجهز على خشبته البحرية. قرار هدم المسرح كان له وقع الصاعقة على المثقفين الجزائريين، هؤلاء الذين ارتبطوا بعلاقة حميمة مع هذا الفضاء الذي اقترن اسمه بالمدينة، وجعل منها منارة المسرحيين وعاصمة «مسرح الهواة».
«الموجة» تجربة جميلة وأساسيّة في مجال مسرح الهواة. إذ خرّج أجيالاً بينها اليوم أسماء لها حضورها البارز، وعُدّ نموذجاً خاصاً في التدريب المسرحي والمسرح التجريبي. البداية كانت مع رجل نحيف قصير القامة مهووس بالمسرح يُدعى جيلالي بوجمعة، خطّط لولادة المسرح في بيته عام 1978 قبل أن يرمي به القدر على شاطئ صلامندر في مبنى خمارة صغيرة مهجورة منذ الفترة الاستعمارية. الخمارة الصغيرة انبعثت مسرحاً، على شكل فضاء يتّسع لمئة كرسي. صار المكان ضاجاً بالحياة حتّى في الأيام العادية. تُطالعنا لدى دخول المسرح صور بالأبيض والأسود لبريخت وبيكيت وأعلام المسرح الجزائري، تقابلها «بلكونة» تطلّ على البحر مباشرةً. ثم امتدت تجربة «الموجة» لتشيَّد خشبة أخرى فوق المياه صنعت عليها فرجة الجمهور المستغانمي وزوّارها في المواعيد الصيفية المنعشة.
هكذا تحول مسرح «الموجة» إلى أحد معالم المدينة، محقّقاً علاقة مبنية على قيم حضرية أكثر تفتحاً وتحرراً، في قلب مجتمع محافظ كان سابقاً لا يعترف بمكانة الفنون. وهنا، تستدعينا حاجة، تلك الفتاة الشابة التي انضمت إلى المسرح وعشقته... فدفعت حياتها ثمناً لتعصّب شقيقها المتحجّر الذي أحرقها حيةً لمسح «وصمة العار»!
حاجة ليست الذكرى الأليمة الوحيدة. إذ إنّ سيراط بومدين، ذلك الاسم المهمّ في سجل المسرح الجزائري الذي أدّى أدواراً مهمة في مسرحيات عبد القادر علولة عميد مسرح الحلقة وتراث الحكواتي، اتّخذ خشبة «الموجة» ملجأً له خلال العشرية الدموية التي عصفت بالجزائر. ثم توفي على خشبته عام 1995 بعد رحلة مع المرض والشقاء وأصبح المسرح بمثابة الضريح الذي نقف أمامه في خشوع حين يقال لنا «هنا توفي سيراط بومدين».