كثيراً ما حُكي عن حلم انفصال البصرة واستحالة التعايش بين الشيعة والسنّة في العراق. الباحث رَيدَر فِسَّر أصدر كتابه «البصرة وحلم الجمهورية الخليجية» (دار الجمل) الذي يدحض فيه هذه المزاعم بالوثائق التاريخية
حسين السكاف
«كثيراً ما توقّع بعض المحلّلين أن يتحرّر جنوب العراق من سلطة بغداد. وبنى بعضهم آراءهم على أساس عوامل تأريخية، واصفين العراق بأنّه اختلاق حديث، وهش ومصطنع، وهو مجرد خليط موروث عن الولايات العثمانية السابقة التي تجمّعت اعتباطاً بعد الحرب العالمية الأولى. وافترض آخرون ببساطة أنّ التعايش بين الشيعة في الجنوب والسنة في الوسط العراقي في دولة واحدة أمرٌ مستحيلٌ وأن المطامح الشيعية الانفصالية هي سمة كامنة متواترة في السياسة العراقية».
هذه الآراء استفزت الباحث النرويجي رَيدَر فِسَّر المهتم بالتاريخ والسياسة المقارنة، والحاصل على شهادة دكتوراه في دراسات الشرق الأوسط من جامعة «أكسفورد». هكذا، خرج بكتاب «البصرة وحلم الجمهورية الخليجية» (دار الجمل ـ ترجمة سعيد الغانمي) الذي يردّ على أغلب الآراء التي ترى في انفصال جنوب العراق بإقليم أو دويلة صغيرة مشابه لدولة الكويت حقيقةً لا بد من تحقيقها.
اعتمد صاحب «البصرة، الدولة الخليجية الفاشلة: النزعة الانفصالية، والوطنية في جنوب العراق» على معطيات تاريخية في ردّه على تلك الآراء: «حين أُعلنت الانفصالية في البصرة في العشرينات من القرن الماضي، فشلت فشلاً بائساً: إذ سادت الوطنية العراقية حتى حين كانت الدولة العراقية في أوهن حالاتها، في السنوات الحاسمة بعد سقوط الدولة العثمانية في أثناء الحرب العالمية الأولى». ويضيف: «إذا نظرنا من منظور تاريخي، فإنّ مظاهر التيار الانفصالي في الجنوب كانت ذات نتائج ضعيفة... المشاريع التي تتحدى وحدة الأراضي العراقية في الجنوب كانت تقتصر على الشائعات غير المؤكدة، وهو نموذج استمر منذ استقلال العراق عام 1932 حتى سقوط نظام البعث عام 2003..».
في مقدّمة العمل، يقول المؤلف: «يوجّه هذا الكتاب سؤالاً واحداً هو: لماذا أحجم السكان المقهورون في جنوب العراق الغنّي بالنفط عن النشاطات الانفصالية طوال الجزء الأكبر من القرن العشرين؟» والمقصود هنا الفترة الممتدة من 1927 حتى 2003 حيث احتلال العراق وسقوط النظام الديكتاتوري. لم يكن سهلاً الإجابة عن هذا السؤال من دون ذكر الأهداف الحقيقية التي دفعت بالانفصاليين عام 1921 إلى تقديم مطالبهم. إذ «سعى الانفصاليون إلى تحقيق دولة مدنية ذات طابع تجاري عالمي منفتح ولا تنحصر بهوية مشتركة على أساس لغوي أو ديني (ولم يكن للطائفية الشيعية أي دور خلال السنوات الأولى من المشروع الانفصالي)» إلا أنّ هذا المطلب الذي شُيِّدت فكرتَه على أساس تقسيم أرض العراق وجعله دويلاتٍ صغيرة، جوبِه برفض واستنكار عارمين من القوى الوطنية العراقية حينها.
يتناول صاحب «شيعة العراق: جذور الحركة الفِدرالية» تاريخ المطالب الانفصالية التي ظهرت جنوب العراق منذ نهاية الاحتلال العثماني، كاشفاً أنّ الحركات والمطالب الانفصالية التي يشهدها العراق حالياً تحت مُسمّى «الأقاليم» أو «الحكم الذاتي» لها جذورها التاريخية وليست وليدة الاحتلال الأميركي للعراق. إذ بدأت هذه المطالب بالظهور منذ الاحتلال البريطاني للعراق عام 1917، وكانت عريضة البصرة الانفصالية التي رفعها وجهاء البصرة إلى سلطات الانتداب البريطاني عام 1921 أولى المطالبات التي عُرفت بتاريخ المنطقة. وقد كانت تختلف تماماً عن تلك المطالبة التي ظهرت لاحقاً وتحديداً عام 1927 واتّسمت بأصولها المذهبية ورامت الانفصال لتأسيس دولة شيعية. فيما الأولى ـــ أي وثيقة 1921 ـــ كان يقودها تحالف إقليمي متعدد الطوائف، وكانت تهدف إلى إقامة دولة خليجية صغيرة... وبالربط التاريخي بين الحركتين والمطالب التي ظهرت بعد الاحتلال الأميركي للعراق، فإنّ مطلب الفِدرالية الذي ظهر في السنوات الأخيرة يشبه ما قدّمته العريضة عام 1921 حيث يأخذ الصورة الإقليمية لا الطائفية، إلا أنّه أخذ ينحو إلى الشكل الذي جاءت به مطالب عام 1927، ابتداءً من آب (أغسطس) 2005 وبدايات عام 2007.
منذ استقلال العراق عام 1932 حتى سقوط نظام البعث عام 2003، لم تظهر أي حركة انفصالية جنوب العراق أو جنوب بغداد، سوى شعار واحد اختلقه النظام الديكتاتوري ـــ إبان انتفاضة آذار التي تلت عمليات تحرير الكويت ـــ ليقمع بذريعته أهل جنوب العراق. إذ كانت الصحف العراقية تذكر بين الحين والآخر عبارة «الانفصالية في الجنوب». لكن، منذ عام 2003، بدأ يتزايد الحديث عن إمكان قيام إقليم شيعي جنوب العراق، أو حتى نشوء دولة شيعية منفصلة.
في صفحات الكتاب الأخيرة، أرفق المؤلف مُلحقاً عرض فيه نص الوثيقة الانفصالية المقدمة عام 1921 إلى «صاحب الفخامة السير برسي كوكس» وقد تضمنت الرسالة 23 فقرة حيث توجز الفقرتان الثانية عشرة والثالثة عشرة فحوى الطلب المقدم والفكرة الرئيسة منه، إذ جاء في الفقرة الـ12: «ورجاؤنا هو أن تصير مقاطعة البصرة مقاطعة منفصلة تحت إشراف أمير العراق أو أي حاكم ينتخبه أهالي العراق وتكون هذه الرابطة بين البصرة والعراق وحدة يطلق عليها اسم ولايتي العراق والبصرة المتّحدتين. فيما جاء في الفقرة الـ13 «ويكون للبصرة مجلس تشريعي منتخب خاص بها، يكون لهذا المجلس السلطة التامة في التشريع المختص بالشؤون المحلية المحضة، ولحاكم الولايتين المتحدتين الحق في رفض أو طلب تعديل أي تشريع يمسّ بمصالح أهل العراق».