تحيّة إلى درويش وإدريس والخطيبي وسعدي يوسفالدار البيضاء ـــ ياسين عدنان
يبدو أنّ الدورة 15 من «معرض الدار البيضاء للنشر والكتاب» الذي تتواصل فعالياته حتى 22 الحالي تحت شعار «مملكة الكُتَّاب» قد تكرّس في المغرب، ليس فقط كحدث ثقافي أساسي لكن باعتباره موعد انطلاق الموسم الثقافي الرسمي في المغرب. إذ إنّ الوتيرة السنوية التي اعتُمدت أيام وزير الثقافة السابق محمد الأشعري وحرص دور النشر المغربية على عدم إخراج كل ما في جعبتها خلال الأشهر الأولى من السنة وانتظار لحظة المعرض، جعلت انطلاقة الموسم الثقافي في المغرب تتأخر حتى شباط (فبراير).
لقد حرصت وزيرة الثقافة ثريا جبران في ندوتها الصحافية التي عقدتها مع الشاعر حسن نجمي، مدير الكتاب والخزانات في الوزارة، على تأكيد إصرار وزارتها على «توسيع فرص المشاركة في البرنامج الثقافي والفني الموازي للمعرض خصوصاً، على مستوى تمثيل خريطة الحقل الثقافي والفكري والأدبي الوطني، وتمثيل الأجيال المختلفة واللغات الوطنية العربية، الأمازيغية، والعامية، فضلاً عن الفرنسية بوصفها إحدى لغات الكتابة الإبداعية والفكرية والإعلامية في المملكة». وبالفعل، فإنّ لائحة الأدباء المشاركين في المعرض توسّعت بشكل ملحوظ، ولم تقتصر فقط على أدباء الرباط والدار البيضاء بل ضمّت العديد من الأصوات الشابة من مختلف مناطق المغرب العميق، إضافة إلى نخبة جديدة من أدباء المَهَاجر (فرنسا، بلجيكا، هولندا، وألمانيا على وجه الخصوصواختارت إدارة المعرض هذه السنة الاحتفاء ببلد أفريقي هو السنغال، ومن خلاله ببلدان جنوب الصحراء. يندرج هذا الخيار في سياق وعي المغرب لأهميّة التصالح ثقافيّاً مع عمقه الأفريقي التاريخي، فسلطة الدولة المغربية كانت حتّى القرن السادس عشر، تمتد حتى السنغال ومالي والنيجر. هكذا ستقام ندوات عن «الموسيقى المغربية والموسيقى الأفريقية: التفاعل والتوليف»، و«المغرب الثقافي والروحي في عمقه الأفريقي»، إضافة إلى ندوة تكريمية لأحد أكبر رموز «الزنوجة»، الشاعر المارتينيكي الراحل إيمي سيزير.
ندوات أخرى احتفائية خُصِّصت لمسارات فكرية وإبداعية أساسيّة في وعينا الثقافي العربي، مثل سعدي يوسف، وعبد الكبير الخطيبي، وعبد الفتاح كيليطو، ومحمد مفتاح... ويوجّه معرض الكتاب تحيّة تكريم إلى رمزين كبيرين رحلا عن عالمنا بالأمس القريب، هما الشاعر محمود درويش (انعقدت الندوة السبت الماضي بحضور سعدي يوسف وكاظم جهاد وصبحي حديدي وبول شاوول وأخيه أحمد)، والكاتب والناشر سهيل إدريس (غداً الأربعاء بحضور محمد برّادة، وأحمد المديني، ورنا وسماح إدريس).
لكن أهم ما يثير الاهتمام في برنامج المعرض هذه السنة، هو تنوّع الأسماء العربية المشاركة. أسماء كبيرة مكرّسة وأخرى في مقتبل النشاط. أسماء ألفها الجمهور المغربي والتقى بها في مناسبات عديدة، وأخرى تزور المغرب لأول مرة. هكذا يحضر أحمد فؤاد نجم، رشيد بوجدرة، الطاهر وطار، فاطمة المرنيسي، الطاهر بنجلون، بول شاوول، مرسيل خليفة، عقل العويط، إبراهيم عبد المجيد، سعيد الكفراوي، سيف الرحبي، وميسون صقر، إلى جانب كل من سماح إدريس ويحيى جابر، محمود قرني، مرام المصري، نوري الجراح، خالد المعالي، زليخة أبو ريشة، خالد النجار، بشير البكر، حرز الله بوزيد، سهام داوود، الطاهر بكري، أمل الجبوري، ابتسام المتوكل، وموسى حوامدة.
بعض الضيوف دُعوا إلى الدار البيضاء على سبيل التضامن، وخصوصاً إثر تعرض الرقابة لبعض أعمالهم، سواء بالمنع أو بالمحاكمة. هكذا جاءت سلوى النعيمي أمس لتدافع عن روايتها «برهان العسل» التي تعرّضت لحصار عربي بسبب جرأتها... كما يحضر الروائي الأردني إلياس فركوح صاحب دار «أزمنة» الذي تعرّض للمضايقة أخيراً على خلفية إصداره كتاب «فانيلا سمراء» للأديبة المغربية الشابة منى وفيق... وهاني نقشبندي الذي غامر بمراجعة جريئة للموروث التاريخي في روايته الجديدة «سلّام». كأن معرض الدار البيضاء الذي يرفع منظموه شعار «ممنوع المنع»، يتحدّى الرقيب العربي ويحرجه، عبر الاحتفاء بنصوص أدبية رفضها مزاج الساهرين على «الأمن الثقافي» في معظم البلدان العربية.
إلا أنّ أحداً لم يكن يتوقع أنّ التشويش على معرض الكتاب سيأتي من أحد شركائه الأساسيين: اتحاد كتّاب المغرب. الاتّحاد الذي ظل يسهر على تنظيم جزء مهمّ من فعاليات المعرض وندواته، يبدو مشغولاً هذه الأيام بحروبه الداخلية. مباشرةً بعد تجديد الثقة في عبد الحميد عقار رئيساً للاتحاد، اختفى أعضاء المكتب تماماً. كان خلودهم إلى السكون يشبه الصمت الذي يسبق العاصفة. وبالفعل، فالعواصف بدأت تتوالى: الأمين العام للاتحاد الشاعر جمال الموساوي قدّم استقالته من المكتب التنفيذي، بعد أسبوع فقط من توزيع المهمات داخل المكتب. وبرّر ذلك بوجود جهة داخل المكتب «هدفها الحصول على المغانم».
وبعد هذه الاستقالة، سيتعمق التصدع داخل المكتب، ما جعل رئيس الاتحاد عبد الحميد عقار يوجّه بلاغاً مفاجئاً يدعو فيه إلى عقد مؤتمر استثنائي للاتحاد من أجل انتخاب مكتب تنفيذي جديد، وذلك على خلفية «تفاقم الخلافات بين أعضاء المكتب التنفيذي الجديد». لكن الرد سيأتي سريعاً من المكتب حيث بادر ستة من أعضائه إلى إصدار بلاغ يعتبر دعوة عقار إلى عقد مؤتمر استثنائي قراراً غير ملزِم، لأنه طبقاً لقوانين الاتحاد «لا يحق الدعوة لمؤتمر استثنائي إلا بطلب من ثلثي أعضاء الاتحاد». وطبعاً ما زال المكتب التنفيذي للاتحاد متصدعاً... والكل ينتظر ما سيأتي به الغد. هل سيوثر تصدّع اتحاد كتاب الرباط على دينامية «مملكة الكُتاب» في معرض البيضاء؟

ميسون صقر تعانق جمهورها المغربيويروج في الصحافة أيضاً أنّ ميسون فنانة تشكيلية. قد يكون ذلك صحيحاً. هي أقامت فعلاً أكثر من معرض ناجح. ثم إنّها روائية أيضاً... بدليل «ريحانة»، تلك الرواية المفاجئة التي كتبتها خلال ثلاثة أشهر قضتها في مستشفى أميركي إلى جانب أمها المريضة، ورصدت فيها بمنتهى الجرأة تناقضات المجتمع الخليجي. هذا من دون الحديث عن حضور آخر لا يقلّ ألقاً بدأت تسجّله في مجال الإخراج السينمائي، مثل فيلمها التجريبي «خيط وراء
خيط».
مع ذلك، نجد صعوبةً في تصديق كل هذه الأوصاف. ليس تشكيكاً في مواهب ميسون المتعددة، بل لأنّها كانت دوماً صوتاً شعرياً صافياً. تابعتُ تجربتها منذ مغامرتها الأولى «هكذا أسمي الأشياء» حتى ديوانها الأخير «أرملة قاطع طريق»... وكنا إزاء كل ديوان جديد لها نجد أنفسنا كقرّاء مأخوذين بالطريقة التي تجدد بها لغتها وعوالمها الشعرية. كل ديوان جديد يقترح نفسه تتويجاً للتجربة إلى حين. وميسون تتجاوز ذاتها يوماً عن يوم، وتتحدى نفسها باستمرار. تكتب بلا هوادة. تبحث في القصيدة عن الشعر، وفي الشعر عن معنى نبيل للوجود. لأنها في العمق ضجرة من العالم. هي الوديعة الطيبة المتصالحة مع الجميع في حياتها اليومية (أين تُخبئ ضجرها؟) تُخضع كل شيء للمساءلة وإعادة التشكيل داخل ورشتها الشعرية. لا شيء يعني ميسون غير الشعر. حتى القصيدة ليست سوى خطوة شفيفة بيضاء في اتجاه الشعر. وكل تجاربها الأخرى في الرواية والتشكيل والسينما والحياة ليست أكثر من أجنحة أخرى تطارد بها الشعر. لحظته الأكثر صدقاً وصفاء.
لقد ظلت هذه الأديبة الإماراتية المقيمة في القاهرة شاعرةً في كل ما أبدعته. وإذا كانت قد تمردت على سلطة والدها واختياراته الشعرية في ديوانها الأول الجريء «هكذا أسمي الأشياء»، ما جعل الراحل صقر القاسمي يمنعها من الكتابة والنشر لبضع سنوات، فهي اليوم تتمرد على القصيدة بهجرها من حين إلى آخر. ومَن حضر أمسيتها في معرض الكتاب في الدار البيضاء يوم السبت الماضي، اكتشف أن كل ما يروج عن صاحبة «البيت» مجرد تشويش. فميسون شاعرة فقط. شاعرة بالأساس. شاعرة جداً.