من «القادسية» إلى «المواكب»... الموسيقار اللبناني يجمع أعمالهبشير صفير
من المؤكد أنّ المؤلف الموسيقي وقائد الأوركسترا اللبناني وليد غلمية (مرجعيون ـ 1938) هو من أبرز الذين ارتبط اسمهم محلياً بعالم الموسيقى الكلاسيكية الغربية تأليفاً ونشراً ودعماً بأكثر من وسيلة (مؤسس وقائد الأوركسترا السيمفونية الوطنية اللبنانية، ورئيس المعهد الوطني العالي للموسيقى). حاز شهادة الدكتوراه في العلوم الموسيقية، وكتب العديد من المؤلفات الموسيقية، معظمها حمل طابعاً تصويرياً رافق أعمالاً مسرحية (روجيه عساف ويعقوب الشدراوي وريمون جبارة...) وسينمائية (برهان علوية، مارون بغدادي...)، إضافة إلى خمس سيمفونيات، أعادت إصدارها أخيراً (منظمة طلال أبو غزالة).
بدايةً، نشير إلى أنّ سيمفونيات غلمية الخمس التي كتبها بين عامي 1976 و1984، هي أعمال ملحمية التوجه، وذات هدف تصويري موفقٌ هنا وأقل دلالة هناكتقسيمها كلاسيكي على مستوى الشكل، أي في أربع حركات، (ما عدا السيمفونيتَين الثانية والثالثة، اللتين أتيتا في ثلاث حركات)، وكذلك على المستوى الإيقاعي. نمطها محافظٌ إذا قيس على السلم العالمي، وحديثٌ بحدود إذا قيس على السلم الإقليمي. لكن أحياناً تبدو ضعيفة في بنيانها العام كما لناحية التقابل بين عائلتين من الأوركسترا، أو لناحية التوافق في العزف الجَماعي.
هذه ملاحظة (شأنها شأن الملاحظات الأخرى) تتلاشى سلبيّتها تدريجاً انطلاقاً من السيمفونية الأولى باتجاه الخامسة. كما تغيب حجة التأليف في بعض الأحيان، وما أجمل الجملة الموسيقيّة عندما تسبقها حجّتها، كما عندما تصبح هي بدورها حجة الجملة التي تليها. يظهر ذلك في التعويل على موضوعة موسيقية، ومحاولة تكرارها توزيعاً على عائلات الأوركسترا (أو على آلات منفردة) من دون أن يكون اللجوء إلى التكرار من باب المينيمالية الأميركي للكلمة أو بالمعنى الرافيلي (نسبة إلى مقطوعة «بوليرو» الشهيرة لموريس رافيل)، وإن كان التكرار يتخلّله بعض التنويع
والتلوين.
السيمفونية الأولى «القادسية» (أو «سيمفونيا الإيمان»)، مستقاة من معارك العرب والفرس في القرن السابع. يمكن القول إنّها تضع مؤلفها في الخانة العربية للتأليف الأوركسترالي وتُنذِر بحالة جديرة بالاهتمام، لكنّها لا تقدم الكثير في هذا المجال نسبة إلى الإرث العالمي (باستثناء مطلع حركتها الأولى). في السيمفونية الثانية «المتنبّي» (أو «سيمفونيا الإرادة والبطولة»)، نجح غلمية، تحديداً في حركتها الثانية، في تجسيد فروسية المتنبي وكبريائه وثقته بنفسه ومواقفه
البطولية.
أما الثالثة، «اليرموك» (أو «سيمفونيا الحرية»)، فتصوّر الترقب والحذر كما الخطر، ويتغيّر شكل هذه الحالات بين الحركات الثلاث التي يتكون منها العمل، وصولاً إلى نشوة النصر.
السيمفونية الرابعة، «الشهيد» (أو «سيمفونيا البذل والعطاء»)، هي الأكثر شرقية (أجزاء من الحركتين الأولى والثالثة) بين شقيقاتها أو بمعنى آخر الأكثر وضوحاً وإصراراً في تعريجها على المقامات الشرقية. وهي تؤكد عنوانها في الإيقاع العسكري للحركة الرابعة.
السيمفونية الخامسة، «المواكب»، هي الأكثر تبلوراً لناحية التماسك الهارموني العام. عمل جميل، بيتهوفنيّ بامتياز، علماً بأنه يحاول الانفلات من هذه الهوية في اتجاه خاص، فيجد نفسه في أحضان برامز تارةً أو ينجح في مهمته طوراً.
في الختام، على المستمع العربي (أو أي مستمع) ألا يحسب حكمه على هذا الإرث المهمّ نهائياً (سلبياً كان أو إيجابياً) إذا لم يكن ملمّاً أصلاً بالأعمال السيمفونية منذ هايدن وموزار وبعدهما بيتهوفن وشوبرت، وبعدهما برامز وبروكنر (ودفورجاك وتشايكوفسكي وسيبليوس بهدف إدراج أسماء طليعية في بيئتها في هذا المجال، كما هي الحال بالنسبة إلى غلمية في الوطن العربي)، وبعدهما مالر وبعده شوستاكوفيتش في القرن العشرين، وبعده التجارب الحديثة، أي التي أتت في الربع الأخير من القرن المنصرم (غلاس، غوريتسكي، بارت...).
الهدف من ذلك، أولاً، استشراف تطوّر الكتابة السيمفونية ضمن قيم جمالية متساوية (بالنسبة إلى فترة هايدن ــــ شوستاكوفيتش)، وثانياً، لمقارنة أعمال غلمية بأعمال معاصريه (بالنسبة إلى الأسماء الأخيرة).
وفي هذه المسيرة، يجب أيضاً الأخذ في الاعتبار الخصوصية البيئية، بمعنى آخر، يجب الالتفات إلى كيفية تطعيم غلمية لأعماله بالبيئة العربية (والحال كذلك منذ اللحظة الأولى من الحركة الأولى للسيمفونية الأولى)، ومقارنتها بالمُكوِّن ذاته عند مؤلف آخر. السبب الأهم الذي يفرض هذه الآلية هو شكل العمل، أي العمل السيمفوني، حيث «الوهلة الأولى» تكون مؤثِّرة إيجابياً (حتماً) لما للصوت العام الناتج من الأوركسترا السيمفونية من وقار ورهبة تفرض احتراماً أكيداً، قد يخفي عيوباً في طيّات الجمال اللحني والهارموني... والأدائي أيضاً، إنما هذا موضوع آخر يمكن طرحه بعد أن يتوافر على الأقل تسجيلٌ ثانٍ للعمل نفسه، ولكن بالمناسبة التسجيل هذا جيّد جداً (الأوركسترا السيمفونية الوطنية الأوكرانية بقيادة فلاديمير سيرنكو).

نديم بو خليل بين الشعر والبيانو والغيتار



نديم بو خليل، اسمٌ متعدد الاهتمامات، دخل معترك الحياة الفنية الموسيقية منذ بضع سنوات، بعد حيازته إجازة الحقوق وإصداره ديواناً باللغة الفرنسية ليعبّر من خلاله عن حالات شخصية حميمة. مساء اليوم وغداً، يلتقي الفنان الشاب (1977) جمهوره في بيروت (الجامعة اليسوعية ــــ قاعة بيار أبو خاطر)، ليقدم آخر مشاريعه الموسيقية التي اتجه فيها هذه المرّة إلى الأغنية بمعناها غير الكلاسيكي.
ألمّ بو خليل بالموسيقى عازفاً هاوياً، ثم تابع دروساً خصوصية قبل أن ينتقل إلى فرنسا (Ecole Normale De Paris– Alfred Cortot) ليتخصّص بتأليف موسيقى الأفلام التي باتت مجالاً قائماً بحد ذاته. ومنذ سنتين، تمكن من الوصول إلى الأوركسترا السيمفونية الوطنية الأوكرانية التي أدّت مجموعة من مؤلفاته الأوركسترالية القالب. صدر هذا التسجيل بعنوان Sunrise Behind The couch واتخذ عنواناً ثانوياً هو «موسيقى تجريبية للأفلام»، شرَح باختصار محتوى الأسطوانة بمقطوعاتها التسع. ويمكن القول إنّ بو خليل انطلق في عملية التأليف بالاتجاه المعاكس، مستحضراً مشاهد أفلام غير موجودة، محاولاً دعم الصورة الافتراضية بالصوت الحقيقي أو استنتاج الأخير من وحي الأولى، لكنّ الآلية العامة ارتكزت على وجه لبنان (المتمثِّل في الكنبة، كما يشرح بو خليل) منذ اندلاع الحرب الأهلية. مع العِلم أنّ علاقة بو خليل بالذاكرة البصرية تعود إلى نصوصه الشعرية (شعر حديث ونصوص نثرية شاعرية النَّفَس) التي امتلأت بالصور والتشابيه والوصف المستفيض، وإن تناول أموراً غير ملموسة أو غير مرئية.
أما قيادة الأوركسترا الأوكرانية فتولاها فلاديمير سيرنكو (1960) الذي بات من أبرز منفذي الموسيقى السيمفونية التي ينتجها لبنان (إلى جانب اهتمامه الخاص بأعمال المؤلفين الأوكرانيين)، إذ سبق وقاد فرقته لأداء أعمال عدّة لمؤلفين معاصرين مثل بشارة الخوري وهتاف خوري ووليد غلمية... إصدار نديم بو خليل الكلاسيكي التصويري، سبقه ألبوم كامل للممثلة الكوميدية زينة دكّاش، تولى فيه كتابة النصوص الساخرة الملائمة لشخصية دكّاش ولحّنها ووزّعها بما يتلاءم أيضاً مع صوتها الخَشِن وأدائها الهزلي. وفي السياق نفسه، لكن من صميم اختصاصه، كتب بو خليل موسيقى أفلام قصيرة عدّة أهمها «صوَر ليلى» (للمخرج بيار سلوم، 2003).
في الحفلتين المنتظرتين، كما أشير في الإعلان الخاص بهما، سيؤدي نديم بو خليل نصوصه الخاصة برفقة فرقة نواتها الترومبيت والباص والدرامز، بالإضافة إلى آلتي البيانو والغيتار اللتين سيتنقّل بو خليل بينهما. أما الإطار الموسيقي الذي وُضِعَت فيه النصوص، فسيتخذ أوجهاً عدّة، بينها الجاز والريغي والروك الهادئ وغيرها.
ب. ص.


8:30 مساء اليوم وغداً: قاعة بيار أبو خاطر ــــ الجامعة اليسوعية ـ للاستعلام: 01/421000